تقديم المترجم: نواصل مع ترجمتنا لهذه الدراسة النوعية النادرة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ مشارك، قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. هناك هوامش للمؤلف وأخرى للمترجم. هوامش المؤلف مرقمة عددياً (مثل: 1، 2...إلخ)؛ وستنشر في الحلقة الأخيرة. أما هوامش المترجم فتنشر في آخر كل حلقة مع تمييزها برمز نجمة (*) أو أكثر. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
ووفقا للنابلسي، فإن قبول فكرة ديناميكية التاريخ يمكن أن يستخدم كنقطة انطلاق لتحرير العقل العربي من أساطير الأسلاف «الذين لا يزالون يسيطرون علينا من قبورهم». وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق تشجيع التفكير العقلاني والنقدي كأدوات لتحقيق تغيير ديني جذريّ وتقديم استجابات مناسبة للتحديات المعاصرة. ويجب أن يكون النقد كليًا: «فليس كافيًا بالنسبة لنا تبديد الخرافات، بل يجب علينا مطاردة ظلالها حتى لو وصلت إلى النجوم أو اختبأت في الكهوف». وهكذا، فإن الهدف النهائي لـ«المانيفستو» هو تكوين شخصية عربية جديدة بعيدة عن العنف والتخريب واللا عقلانية والدروشة والقبَلية والعنصرية لتصبح شخصية عقلانية وعلمية ووطنية ومتسامحة. (37)
المانيفستو الليبرالي يستعين بالغرب لمواجهة الاستبداد المحلي
وفي حين استلزم «المانيفستو» التغلب على العائق الديني عبر مراجعة فكرية وتربوية للعقلية العربية، طالب «المانيفستو» أيضا بالتغلب على العائق السياسي الاستبدادي بمساعدة الغرب. وكشفت هذه الآراء يأس النابلسي من إمكانية قيام الحكام العرب من تلقاء أنفسهم بتطبيق ديمقراطية حقيقية ويأسه أيضًا من قدرة المعارضة السياسية على ممارسة ضغط فعال.
وأوضح النابلسي لجمهوره العربي أنه لا يوجد سبب يمنع المساعدات الخارجية في القضاء على فيروس الاستبداد. وأكد أن مثل هذه المساعدة ليست بلا سابقة تاريخية؛ فالولايات المتحدة ساعدت أوروبا في هزيمة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والنزعة العسكرية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية. وتأمل النابلسي في التدخل العسكري الغربي في الشرق الأوسط عبر منظار إيجابي، مشيرا إلى تحرير الكويت في عام 1991، و(ما سماه) «تحرير» العراق عام 2003.
الإصلاح الليبرالي ممكن عبر دبابة بريطانية أو مدمرة أمريكية أوغواصة فرنسية!
وأكد أن الإصلاح يمكن أن يأتي «على جمل عربي أو دبابة بريطانية أو مدمرة أمريكية أو غواصة فرنسية»(؟!). ولكن النابلسي قاوم إغواء المصادقة على التدخل الأجنبي دون قيد أو شرط، وأوصى بأن تأخذ المساعدات الغربية لتعزيز الديمقراطية في العالم العربي شكل الحوار والمفاوضات... وربما العقوبات الاقتصادية. وعند ذكر السوابق ذات الصلة، أشار إلى انهيار رمزين كبيرين من رموز الحرب الباردة للدكتاتورية الشيوعية عام 1989: «الاتحاد السوفيتي» و»جدار برلين»: «بدون إراقة نقطة دم أو إطلاق رصاصة واحدة». (38)
وجادل النابلسي بأن المسيرة نحو الديمقراطية الحقيقية، على أساس عقد مدني يضمن الشفافية، يجب أن تمضي جنبا إلى جنب مع الانفتاح على العالم الخارجي. وعلى سبيل المثال، استشهد بالعولمة التي يعتقد أنها لا تشكل تهديدًا لاستمرار الهُوية العربية، بل هي مجرد عملية لتدويل الثقافة بدأت منذ عدة قرون. (39) فالعولمة ظاهرة تاريخية حتمية تبشر بعصر الحداثة والعلوم والتكنولوجيا المتقدمة؛ وهي أمور يحتاجها العرب، ويجب أن يندمجوا فيها عاجلاً أو آجلاً. (40)
... والسلام بل التطبيع مع إسرائيل ضروري
وأعطى الأهمية نفسها للعلاقات بين الدول المتجاورة والسلام مع إسرائيل. وكانت مقاربة «المانيفستو» للسلام إيجابية وشاملة، وتضمنت ليس فقط التطبيع السياسي والدبلوماسي؛ ولكن أيضًا الأهم من ذلك وهو تطبيع العلاقات بين الشعوب والثقافات، باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط. وهنا تتداخل المسكونية الثقافية مع الواقعية السياسية، التي أكدت ضعف العرب العسكري والتكنولوجي والاقتصادي نسبيًا مقابل خصمهم؛ فرفض الاعتراف بهذا الواقع الموجود - يحذر «المنيفستو»- هو مثل «دفن الرأس في رمال الصحراء العربية اللاهبة». (41)
يجب أن تكون الحداثة العربية وليس الحداثة الغربية مصدر الإلهام
وبالرغم من جرأة «المانيفستو»، فإنه لم يخلُ من الولاء للهوية الأصلية؛ فالمؤلف أكد على نقطة مهمة، وهي أن الحداثة العربية وليس الحداثة الغربية يجب أن تكون مصدر الإلهام في ما يتعلق بالإصلاح الديني وحرية الفكر، لأن «كل شعب لديه حداثته الخاصة به». فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بالمساواة بين حقوق الرجل والمرأة والتعليم والعمل، أشار «المنيفستو» إلى «قانون الأحوال الشخصية التونسي لعام 1957» كنموذج له. ووصف القانون التونسي بـ»القانون العربي المثالي لتحرير المرأة العربية» متجنباً الاعتماد على المفهوم الغربي للتحرير، التي يربطه الخطاب العربي بالانحلال والفحش. (42) واستخدم نهجًا مماثلاً في خاتمة «المانيفستو»، حيث أكد النابلسي أن مبادئ الحرية والديمقراطية والسوق الحرة ليست حكرا على أي شعب أو أمة معينة. (43)
غبريال يتجاوز سقف النابلسي
وكتب الكاتب القبطي المصري كمال غبريال، زميل النابلسي، أن الهدف من «المانيفستو» هو إزالة الغموض المحيط بالفكر العربي المعاصر. ويعود ذلك الغموض –حسب غبريال– إلى فشل بعض دعاة الليبرالية في عرض أفكارهم بكيفية لائقة، كما يعود إلى تجريم الفكر الليبرالي ونزع شرعيته من خصومه السياسيين، مثل القوميين العرب والإسلامويين الذين حافظوا بقوة السيف على أيديولوجياتهم رغم كونها أصبحت خارج الزمن. وأضاف الكاتب القبطي المصري أن «المانيفستو» هو دعوة إلى المشاركة، وموجه إلى أي شخص يهمه مستقبل الليبرالية؛ فهذه الأخيرة لم تعد في المرحلة الجنينية، بل أصبحت حركة أيديولوجية غرست جذورها. وعبّر غبريال عن أسفه لمصير الشرق الأوسط، الذي مر بقرون من الركود أخرجته من التاريخ. وحثّ الطليعة الليبرالية على تطوير فكر ليبرالي أكثر، ووضعه موضع التنفيذ عن طريق العمل الميداني المكثف وبمساعدة المنظمات غير الحكومية. ومثل النابلسي، وضع غبريال ثقته في المساعدات الخارجية لتسهيل «القفزة الثقافية المطلوبة»؛ ولكنه تجاوز سقف النابلسي في دعم التدخل الغربي بصراحة أكبر. (44)
العفيف الأخضر:
لليمين در... من الماركسية
إلى اللبرالية!!
وتعززت جهود النابلسي وغبريال لتعزيز التماسك الأيديولوجي للخطاب الليبرالي عبر «مانيفستو» لاحق أصدره التونسي العفيف الأخضر عام 2007 باسم «الميثاق العقلاني». وكان الكاتب «الماركسي» التونسي العفيف الأخضر قد انتقل إلى باريس في أواخر السبعينيات، ثم انضم إلى المعسكر العربي الليبرالي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي (؟!!). وبدل مصطلح «الليبراليون الجدد»، فَضَّلَ الأخضر مصطلح «العقلانيون العرب» لوصف رؤيته للعالم. وتماشيًا مع عنوانه، شدد «الميثاق العقلاني» على أهمية «العقلانية» بوصفها أداة لخير البشرية والعرب على وجه الخصوص.
العقلانية -يقول الأخضر– عالمية. ولذلك، فإن تقليد الغرب علميا وتكنولوجيا أو حتى تقليد الثقافة العقلانية الغربية لا ينبغي أن يعد ساذجًا أو غير أخلاقي؛ بل بالعكس، إنه خطوة ضرورية على طريق التقدم. فمن خلال تقليد الغرب فقط، يؤكد المؤلف، استطاعت دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والصين والهند إحداث قفزة كبيرة إلى الأمام علميا واقتصاديا؛ بل نافست بعض تلك الدول دولا غربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة. بيد أن التقدم لا يمكن أن يحدث تحت هيمنة الإرهاب الديني الذي ينظر إلى القرآن كـ«موسوعة علمية» تضم جميع المجالات العلمية الممكنة، ما يخلط بين الإسلام كدين والإسلام كتاريخ. وأولئك الذين يحظرون تقليد الغرب مسؤولون عن خسارة القدرات العقلية العربية، وبالتالي يحكمون على مجتمعاتهم بالخراب في الوقت الذي أصبح العالم على أعتاب ثورة صناعية ثالثة تتمحور حول ثورة المعلومات والعولمة الاقتصادية. (45)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com