د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في بدء قراءاته لفتت نظرَه كتاباتٌ فرَّت من الرقيب ودخلت أسواق الوطن خلال حكم الملك سعود كما يبدو من تأريخها المدون في الخمسينيات الميلادية، ومنها مقالات للدكتور مصطفى محمود رحمه الله خلال فترته «الشكيَّة أو «اللا أدرية»، ويستعيد منها عبارةً لم تفارق ذهنه، وهي: «نحن الآن في عصر الذرة ولسنا في عصر الصلاة»، ولا نحتاج إلى التعليق عليها؛ فقد منَّ اللهُ على صاحبها بالهداية وصار له مسجدٌ كبيرٌ عامرٌ بالمصلين، ورحل مؤمنًا كما نحسبه بعدما خصَّص وقته لتحرير عقول متابعيه من ظلمة الحيرة الوجودية.
** الحكاية هنا تمس مفردات الجملة لا معناها: (نحن في عصرٍ»ما» ولسنا في عصرٍ غيرِه)؛ فقد صارت لازمةً لأدبيات الوسائط التواصلية والكتابات الخفيفة التي تكتفي بالعناوين السريعة؛ فهل يمكن التنازل عن المدلولات التأريخية للأعصر وفق الرؤى المتبدلة تبعًا لمتغيرات السياسة والاقتصاد والتقنية؟ أوَ لا يسوقنا هذا إلى تحميل الظواهر والمظاهر المتغيرة دلالاتٍ أكبرَ من حقيقتها؟ وما تأثير هذا على الفجوات المتضخمة بين المدركات اليقينية والظنية وبين الأجيال المكتهلة والشابة وبين العالم الحقيقي والافتراضي؟
** تبدلُ الوسائل لا يعني اختلاف المقاصد، وإغلاق مسارٍ أو تضييقه لا يُلغيه، والأيام تلد وتجدِّد، والمصالحُ تُقرِّب وتُبعِّد؛ فأنْ نجدَنا محاطين بكسرويين وقيصريين وصهيونيين فليس لأننا في عصرهم بل لأننا لم نؤسس عصرَنا، وأن تُهاجمَ «السلفية» بدعوى موت أعصرِها فلأنها انساقت إلى عبث التصنيف ولم تسعَ لنقد ذاتها، وأن يُظنَّ أن عصر التطبيع قد أزف لأن بيننا من صالح ومن صافح فلأن المحاربين قد استرخوا، وأن تُسقط النخب لأننا في عصر ما بعد «بعد» الحداثة فلأنها تنازلت عن مواقعها فحدث فراغٌ ملأه شغبُ التفاصح والتفاضح والتناطح.
** نحن اليوم في زمن «ما بعد الألفية» التي اختلفت عن أزمنة الحداثة وما بعدها، ويسميها بعضهم «شبه الحداثة» ويرونها موازيةً للتسطيح والفوضى والتهييج والتطرف ينتج عنها - وفق الباحث البريطاني «ألان كيربي»- حالات انتشاء من الدهماء ومحصلتها خواءٌ وأحيانًا «هُراءً»، ويرى «الإنترنت» حداثة زائفة لعدم موثوقيته وتحكم الفرد بمنتجه.
** كتب صاحبكم كثيرًا حول هذا الأمر قبل أن يقرأ «كيربي» ومماثليه وسيكتب معهم وبعدهم؛ إذ لا يضيف المسكونون بالحضور الصاخب عبر الوسائل المقننة والمنفلتة غير مزيدٍ من الهذْر والهدر.
** تسعى مرحلة ما بعد «بعد» الحداثة إلى تكثيف دور الفرد في تسيير المراكب التنموية مهما كانت مدركاته، وهو ما أوصلنا إلى الزمن غير المنضبط الذي يتوارى فيه العقل المفكر والإرادة الواعية؛ فلعل عصرًا آخر يؤذن بإشراقٍ وتتفتح معه آفاق.
** الزمنُ هو الناس.