د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يخفى على أحدٍ أنَّ العالم اليوم بلغ شأواً بعيد المدى في التقنية والتكنولوجيا، فقد تطوَّرت وسائل الاتصال والتواصل، وإذا كنَّا قبل سنوات نقول إنَّ العالم أضحى قريةً صغيرةً حين عرف العالم الشبكة العنكبوتية، فإنه أصبح اليوم أصغر من ذلك بكثير، بفعل التطور السريع لعجلة التقنية والتحول الهائل في التكنولوجيا الرقمية.
وإذا كان هذا من نافلة القول فإنَّ ثمة تساؤلات تلح في ذهني دائماً بحكم قربي من الشأن الثقافي: هل استطاعت مؤسساتنا الثقافية أن تستثمر هذه التقنية المتطورة الاستثمار الأمثل في عملها الثقافي؟ هل تدرك هذه المؤسسات الأهمية القصوى لهذه التقنية في نشر وإدارة وتطوير شؤونها الثقافية؟ إلى أي مدى تمكنت مؤسساتنا الثقافية من الإفادة من وسائل التواصل في التعريف بمنجزاتها والإعلان عن أنشطتها؟ وما هي الوسائل التي اتخذتها في استغلال هذه الثورة المعلوماتية الواسعة والتكنولوجيا المتطورة لإدارة دفة جهودها الثقافية؟
إنَّ ما ألحظه في هذا الصدد أنَّ من بين أحد الأسباب التي أسهمتْ في تأخرنا الثقافي هو عجز مؤسساتنا الثقافية -على تفاوتٍ فيما بينها- عن اللحاق بركب هذه التقنيات المتسارعة، وعدم استثمارها بالصورة المأمولة المفترضة، فلا النوادي الأدبية أدركتْ أهميتها وأفادت منها، ولا صحفنا ومجلاتنا وملاحقنا الثقافية تمكَّنتْ من استثمارها بشكلٍ يسهم في دفع عجلة الشأن الثقافي إلى الأمام، ولا إعلامنا المرئي والمسموع رأيناه يواكب هذه التقنية المتطورة ويستفيد منها في تعزيز الوعي بأهمية الثقافة ونشرها وإدارة شؤونها وتطوير برامجها.
أقول هذا وأنا أدرك تماما أنَّ بعض هذه المؤسسات تحاول أن تستفيد من إمكانات التقنية والتكنولوجيا، لكنها محاولاتٌ نادرةٌ من جهة، وضعيفةٌ من جهةٍ أخرى، وغير مستوعبةٍ لطبيعة الاستثمار المفترض وكيفيته من جهةٍ ثالثة، فليس المقصود من ذلك فحسب أنَّ تنشئ المؤسسة الثقافية لها حساباً في (التويتر)، أو تضع لمناسباتها وإعلاناتها صورةً أو اثنتين في (الانستقرام)، أو تغطي فعالياتها وأنشطتها عبر مقطع أو اثنين في (السناب)، وإن كانتْ هذه الإفادة مطلوبةً وضرورية، لكني أعدُّها شيئاً يسيراً مما يمكن أن تفيده التقنية التي تحمل في جعبتها الكثير لمن عرف دهاليزها، وأجاد استثمار إمكاناتها، فهي حتماً ستُقدِّم له أكثر مما يتوقع، وأضعاف ما كان يظنُّ أنه هو فقط ما يمكن أن تُقدِّمه.
بل إنَّ مؤسساتنا الثقافية مخفقةٌ حتى في الإفادة من هذه البرامج والتطبيقات الشهيرة، حيث يلحظ القريب من الشأن الثقافي ضعفاً واضحاً في ظهور الجهود الثقافية ونشرها على مثل هذه الوسائل التي أضحتْ في السنوات الأخيرة ناقلاً ومحرِّكاً مهماً لأي قضيةٍ اجتماعيةٍ وثقافية، ومع هذا فلا نرى ذلك الحرص الشديد من هذه المؤسسات في استثمار مثل هذه البرامج استثماراً يسهم في دعم الشأن الثقافي في هذا الوطن مترامي الأطراف، بدلاً من ترك الساحة لحفنةٍ من (المهرجين) وشرذمةٍ من (السامجين) الذين تمكنوا من استغلال هذه البرامج بامتياز لنشر (تفاهاتهم) واستعراض خِفَّة (عقولهم)، فلم يجد المجتمع المسكين غيرهم ليتابعهم ويتناقل مقاطعهم، لأنَّ هذه المؤسسات (أخلَّتْ) بواجبها الثقافي، و(أَخَلَتْ) لهم هذه المساحة التقنية المهمة، فلا غرو أن يخفت مشهدنا الثقافي، ولا عجب أن ينظر المجتمع إلى الثقافة نظرة فيها شيء من الريبة وعدم الاستيعاب.
بل إني أزعم أنَّ إخفاق المؤسسات الثقافية في وطننا المعطاء في التعامل مع التقنية واستثمارها بالصورة المثلى أدَّى بشكلٍ رئيس إلى عزوف المجتمع عن التعاطي مع هذه المؤسسات، وتجاهل ما تُقدِّمه من جهودٍ ثقافية تحاول من خلاله التواصل هذا المجتمع الذي بهر بهذه التقنية وأبحر في عالمها وركب أمواجها، ولم يجد لهذه المؤسسات ذلك الحضور الفاعل الذي يمكن أن يسرقه من (تفاهات) المشاهير، وتأخذ بيده إلى فضاءات الثقافة الحقيقية وجماليات المعرفة المفيدة، وأضحتْ الأنشطة الثقافية محصورةً في النخبة، وموجَّهةً إلى فئةٍ معينة لا تتجاوزهم إلى غيرهم!
إنَّ على مؤسساتنا الثقافية أن تتنافس بجديةٍ في الإفادة من الإمكانات الفنية الهائلة من التقنية والتكنولوجيا ووسائل التواصل بمختلف أنواعها إذا ما أرادتْ حقاً أن تنهض بالثقافة في المملكة، وعزمتْ فعلاً على أن تقوم بدورها المنوط بها في خدمة المجتمع وزيادة جرعاته الثقافية، وتوعيته بأهمية الارتقاء بمستواهم الفكري والثقافي، وأن تؤتي جهودها وأنشطتها الثمار المنتظرة والنتائج المأمولة.
ولكي لا يكون الموضوع كلاماً على ورق أقترح في هذا الصدد أن تتضافر هذه المؤسسات في عقد ندواتٍ أو مؤتمرات تُستعرض فيها الجهود التي بذلتها إدارتها في الاستفادة من التقنية في عملها ا لثقافي، كما يمكنها من خلال هذه الندوات أن تتبادل الخبرات والتجارب، وأن تُقدِّم المقترحات وتفكر في توصياتٍ لتفعيل الإفادة من تطور التقنية في تطوير عملها الثقافي، إضافةً إلى استعانتها بخبراء ومتخصصين متميزين في التكنولوجيا ليسهموا معهم في تطوير وإدارة ونشر الجهود الثقافية، ودعم الفكر والثقافة وتعزيز الوعي بأهميتهما بين أفراد المجتمع.