د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تلقيتُ (تهديداً) (لطيفَ) اللهجة من المسؤولين في هذه المجلة المتألقة بعدم الإطالة في المقالات، بل إنهم توعدوني بأنه في حال تجاوز المقال 600 كلمة فإنهم سيضطرون إلى تشتيت شمله وتقطيع أوصاله، في البداية لم آخذ هذا (التهديد) على سبيل الجدية، فلم آبه بعدد كلماتي، ولم أفكر في تجزيء مقالٍ يتجاوز هذا العدد، غير أنني اكتشفتُ فيما بعد أنهم نفَّذوا وعيدهم، فأيقنتُ أنهم لا (يمزحون)، وليس أمامي بعد اليوم إلا الرضوخ لهذا التوجيه -بل التوجُّه- الذي ألهمني فكرة هذا المقال.
نحن في عصر اللمحة واللقطة، فإيقاع الحياة أضحى سريعاً للغاية، إذ كل شيء يبدأ وينتهي في دقائق، بل في ثوانٍ معدودة، ولهذا فلا غرو أن يتسلل الملل والنفور إلى النفوس حين يمتد بها الوقت -الذي كنا نحسبه معقولاً في وقت مضى- لتشاهد مقطعاً مرئياً، أو تصغي إلى آخر مسموع، أو تقرأ مقالاً أو تتابع خبرا، فالمعرفة تتفجَّر في كل يوم، والعلوم بأنواعها أصبحت قريبةً من كلِّ أحد، وضغطةُ زرٍّ واحدة كفيلةٌ بأن تنقلك إلى فضاءات أيِّ علم تريد.
ولعل القبول الواسع الذي لقيه أشهر موقع للتواصل الاجتماعي (تويتر) أكبر دليل على توجه العالم إلى الكلمة القصيرة، والعبارة الموجزة، والفكرة المختصرة، وأصبح الكاتب/المغرِّد المتميز هو ذلك الذي يمكنه صياغة فكرته كاملة بما لا يتجاوز 140 حرفا.
ولا شك أنَّ توجُّه (الجزيرة) الأم وابنتها (الثقافية) إلى الإيجاز ينسجم مع إيقاع الحياة السريع، ويتناغم مع الانفتاح المعرفي والانفجار المعلوماتي الهائل الذي يشهده العالم، فالقارئ لم يعد هو القارئ السابق الذي يمكنه أن يتحمَّل وقتاً طويلاً في قراءة مقالٍ أياً كان موضوعه، خاصَّةً أنه يتصفَّح جريدةً فيها عشرات المقالات والأخبار، بل إنَّ وراءه آلاف المقالات والرسائل والأخبار والتغريدات التي تنتظره في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
إنَّ كاتب المقال في هذا العصر يواجه تحدياً كبيراً إن أراد حقاً أن يكون ناجحاً جاذباً للجمهور؛ لأنه سيجد نفسه محاطاً بعددٍ كبير من الكُتَّاب، سواء أكانوا في الصحافة الورقية أو الإلكترونية، وكلٌّ منهم يريد أن يسوِّق لنفسه ويثبت للآخرين أنه الكاتب المعاصر الذي يستجيب لمتغيرات الحياة، الكاتب الذي يفهم احتياجات العصر ويتفهَّم طبيعة القارئ وتطوره وانشغالاته، ويدرك حجم المنافسة التي يخوضها في ظل هذا الانفتاح المعرفي الذي يتمدَّد كل دقيقة.
ولهذا فإنَّ عليه أن يتخلَّى عن أساليبه القديمة، تلك التي يطيل فيها ويعيد ويزيد، مستعرضاً بألفاظه، ومظهراً معرفته بالمترادفات، و(يلف) و(يدور) حتى يصل إلى مقصوده بعد أن يكون قد أجهد القارئ وأخذ منه وقتاً طويلا، وسيكون حظُّ القارئ جيداً إن كان المقال بعد كلِّ هذا يتضمَّن شيئاً ذا بال استحقَّ هذا الجهد والوقت.
ثم إنَّ التوجُّه إلى الإيجاز في صياغة المقال والاختصار في إيصال الفكرة إلى المتلقي يتيح للمطبوعة مساحةً أوسع لعرض أكبر عددٍ من المقالات، مما يسهم في مزيدٍ من التنوع في الموضوعات، والتعدد في الطرح، واستيعاب الكُتَّاب، وهو أمرٌ ينبغي أن يحرص عليه كلُّ منبرٍ إعلاميٍّ وثقافيٍّ يريد أن تكون له بصمةٌ في المنافسة، وأن يصل صوته إلى أكبر عدد من الجمهور.
إنَّ البلاغة في الإيجاز، أن تقول فتختصر، أن تستخدم (أقل) الكلمات فيصل مقصودك (الكثير) والكبير إلى المتلقي في أكمل بيان وأتم صورة، أن تحترم وقت القارئ والمتلقي، فتقول الكلمة و(رد غطاها)، أن تعطيه (الزبدة)، أن (لا تُكثِر الكلام)، أن تقول ما عندك و(تمشي)، شرط أن يكون ما لديك يستحق أن يُقال، وليس مجرَّد استعراض لمعلومات قديمة، أو تكراراً لقضيةٍ تلوكها الألسن فأضحتْ بالية الثياب، أو غمغماتٍ وهمهماتٍ لا يُعرف أولها من آخرها زاعماً أنه نصٌّ شعريٌّ أو فلسفيٌّ لا يفهمه إلا النخبة!
أظنُّ أني اقتربتُ من الكلمة الـ600، إلى اللقاء.