د. جاسر الحربش
حرث وتقليب الأرض وانتقاء البذور المناسبة أولاً، ثم توقع المحصول الجيد. المحاصيل الجيدة تتطلب أيضًا استبعاد الحشائش الضارة والأحجار ونتوءات التربة وردم الحفر التي تبتلع المياه وتحرم منها البذور. هذه عمليات مترابطة، تتطلب المعرفة الجيدة قبل حسن النية بطبيعة الأرض والمحصول المناسب لها، وبالتوقيت الأفضل للبذار، وبما يجب إبعاده عن التربة وبكميات الري الضرورية، بقاعدة لا تعطيش ولا إغراق. من المهم أيضًا محاربة الآفات والطفيليات التي تأكل أو تتلف المحاصيل، وأخيرًا العلم الإحصائي الدقيق بما يحتاج إليه أهل الأرض لاستهلاكهم الذاتي، وبالفائض المناسب للعرض حسب متطلبات البيع والشراء في السوق.
عملية فلاحة العقول لاستنبات محاصيلها أعقد وأشد إجهادًا من فلاحة الأرض. مع كل خطوة تنموية طموحة أو رؤية جديدة يكثر الكلام عن التحول من الريع إلى الاكتفاء الإنتاجي، ويدمج في ذلك توظيف مئات الألوف من الشباب والشابات خلال سنوات قليلة. السؤال المهم هنا يكون عن نوعية هذه الوظائف، وقبل ذلك عن المجهود التعليمي والتدريبي المبذول قبل التوظيف. إن كانت الحسابات تقوم على توظيفهم بمرتبات متدنية في أعمال بدائية، وتترك الوظائف المتطلبة للمهارة والمعقدة للاستقدام من الخارج، فـ(كأنك يابو زيد ما غزيت).
لا بد من الاعتراف في مسار مصاحب للرؤية التنموية الجديدة بوجود شوائب كثيرة في تربتنا العقلية الاجتماعية، تتطلب ليس الحرث فقط بل التقليب بعنف عندما يلزم العنف، ولكن باللطف المناسب عندما يمكن الاستغناء عن العنف. من الصعب تعداد معوقات الاستنبات العقلي الإنتاجي في تربتنا الحالية، ولكن لا بأس من عرض الأولويات.
الأولوية الأولى هي تقليب وحرث التربة التعليمية والتدريبية، واستبعاد معوقات التنمية العلمية وما لا لزوم له أو لا فائدة منه. هذا يعني الموازنة المنصفة والاقتصادية بين متطلبات الدنيا ومتطلبات الآخرة.
الأولوية الثانية هي التركيز الرقمي الإحصائي على ضبط المخزون المائي الاستراتيجي والحجر على من يتسبب في هدره لأسباب تربحية أو ترفيهية. النصف الآخر المكمل للمخزون المائي هو المخزون الغذائي الاستراتيجي. المفاهيم السائدة عندنا في مفاهيم الكرم تتداخل بعمق مع النفاق الاجتماعي، سواء في ولائم الأفراح أو الضيافة التقليدية، وتستوجب التقييد الشرعي والنظامي لممارساتها السيئة.
وأخيرًا الأولوية الثالثة هي ضبط الشارع الفوضوي، وإجبار الناس على احترام النظام، والتوقف عن العبث بالأرواح والبنيات التحتية والمركبات وقطع الغيار والمستهلكات النفطية. هذه الآفة تهلك سنويًّا عشرات الألوف، وتسبب مئات الألوف من الإعاقات الدائمة، وتستهلك ما يزيد على ثلث المصاريف والجهود الطبية والصحية، وهي كذلك العنوان الأكبر لاحتمالات الفشل الإداري والاقتصادي مهما حسنت النيات.