فيصل أكرم
كان المتداول بين الناس، في حالات كثيرة، مصطلح (الأزمة مع النفس) بوصفه (أزمة نفسية) وهي حالات فردية دائماً ما يكون سببها عقدة ما أو تعرض لحادث في الصغر، وما إلى ذلك من احتمالات باتت معروفة عند كل الناس ولم تعد بحاجة إلى تشخيص من طبيب نفسي؛ غير أن الواقع الذي نعيشه الآن، بتسارعه في كل شيء حتى لم يعد أحدٌ قادراً على الإمساك بأيّ شيء، بات يطرح مصطلحاً شمولياً خطيراً (الأزمات مع الأنفس) ويتجلى ذلك في المسلسلات التلفزيونية (الرمضانية) التي نشاهدها الآن.
الأزمة مع النفس غير الأزمة النفسية، والأزمات مع الأنفس غيرهما.. والأخيرة تبدو لي ظاهرة ملفتة الآن بقوة، وما كانت لتظهر بهذا الشكل المتعدد في أعمال درامية (موسمية) لولا أنها تطغى بشكل ملحوظ على المجتمعات. وقد شاهدتُ فيلماً قديماً لمحمد صبحي عنوانه (آدم بدون غطاء) قبل أيام قليلة، ونحن في الليلة الثانية من شهر رمضان، وكان الفيلم يحكي عن اختفاء البشر وبقاء كل الأبنية والإضاءات والأجهزة والسيارات جاهزة للاستعمال ولكن بدون بشر(!) وفي الوقت نفسه انطفأت الكهرباء في شقتي فخرجتُ أنظرُ من الباب لأجد العمارة كلها مظلمة، نظرتُ من الشبّاك لأجد الشارع كله في ظلام تتراص بوسطه الأبنية والسيارات كأشباح نائمة بينما البشر في حيص بيص!؛ فتحقق عكس الفيلم الذي كنت أشاهده في تلك اللحظة، إذ سمعتُ أصوات الناس ولكني لم أرهم لعدم وجود إضاءة – ونحن في أول الشهر الهجريّ! – فبدت الأبنية والأجهزة كلها وكأنها أشياء لا معنى لوجودها على الإطلاق، طالما أنها غير قادرة على العمل في خدمة الناس، بينما كانت ضرورية جداً لحياة رجل واحد (محمد صبحي) وامرأة واحدة (نيللي) في الفيلم المذكور، ليعيشا بشكل خياليّ مترف، وإن خلا من الناس.. كلّ الناس!
تلك كانت (أزمة نفسية) حدثت لبطل الفيلم حين أعجبته مضيفة في الطائرة، وتمنى أن يخلو العالم من الناس ويبقى هو وهي وحدهما فيه، فنام وتخيّل ذلك كأنه حقيقة.. أمّا المسلسلات التي تعرضها الشاشات العربية الآن، فأبطالها دائماً يستخدمون أحدث الأجهزة، من وسائل المواصلات إلى وسائط الاتصالات التقنية المتطوّرة جداً، غير أنهم في مقابل ذلك، أو ربما من تبعات ذلك كله، أنهم دائماً يقعون في (أزمات مع أنفسهم) تجعل كل بطل أو بطلة في مسلسل يكون محوره ظهور كائن غريب يشبه الضمير يعاتب ويعاقب ويحب ويهجر ويحنو ويقسو بطرق تتجاوز طاقات البشر العاديين؛ حتى يتبين في آخر الحلقات ما إذا كان ذلك حضور أرواح لأناس ميتين أم هو مسٌّ شيطاني أم النهايات المبتذلة تكراراً بوجود (مؤامرة) من عصابة (بشريّة) استغلّت الواقع المتأزّم عموماً لتحقيق مصالح خصوصية.
* * *
وقع في يدي كتابٌ صغير عنوانه (طبيب يتحدّث عن: التوتر العصبي) تأليف مجموعة من الأطباء العالميين، وترجمة ونشر (مؤسسة مصري) في طرابلس لبنان، والغريب جداً أن الكتاب صادر عام 1986 أي قبل ثلاثين عاماً، فانظروا ماذا يقول عن الأزمات مع الأنفس (أو ما سمّاها بثورات الدواخل) والتي ينجم عنها التوتر العصبي:
(إن هناك بالتأكيد أسباباً لهذه الثورة الداخلية، ولعل السبب الأول يعود إلى الخطى السريعة للتقدم التكنولوجي، هذا التقدم الذي ترك آثاره وبصماته على حياتنا. إن التبدل السريع في أنظمة الاتصال بين شخص وآخر جعل العالم كله يعاني من التوتر، وتقدم وسائط انتقال المعلومات يخيفنا أكثر. فمجاعات إفريقيا وحروب الشرق الأوسط ومتاعب أمريكا اللاتينية.. هذه الأحداث بالإضافة إلى الضجيج في المدن ومشاكل السير، تلوث هواء المدن والعيش في شقق كالعلب... هذا بالإضافة إلى تفكيرنا الدائم بأخطار الحروب النووية ومشاكلنا اليومية كانخفاض وارتفاع أسعار النفط وتراكم الأقساط الائتمانية وسوء الإدارات الحكومية والخوف من الجريمة المحتملة في أي وقت ومن أي شخص، وبقية المشاكل المتوقعة، كل هذا يرفع معدل التوتر في حياتنا أضعافاً مضاعفة).
يا إلهي.. أكاد أصاب بتشتت ذهنيّ يصل حدود (الأزمة مع النفس).. إذ كيف لكتاب صدر قبل ثلاثين عاماً أن يتحدث بهذه الطريقة عن مشاكلنا التي لم تبدأ إرهاصاتُ ظهورها إلا قبل خمسة وعشرين عاماً فقط؟ لا تعليق!
ولا أجد ختاماً سوى: لا حول ولا قوّة إلا بالله.