اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إذا كان من أراد علو بنيانه يتعين عليه أن يقوي أساسه فإن نجاح الرؤية يعتمد على قوة الأسس التي تبنى عليها وصلابة الأرضية التي تنطلق منها، وارتباط ذلك بالأساليب والوسائل التي تُتّبع لتجسيدها على أرض الواقع عبر آلية تنفيذية محكمة وطرائق إجرائية منظمة، وعادة كيفما تكون الرؤية تكون أساليبها، لكونها تنبع منها، ويترتب عليها وجودها والكيفية التي يوزن بها حجم النجاح ويقاس عليها مستوى الصلاح، حيث إن الرؤية على هذا الأساس تُنتج أساليبها، واتباع هذه الأساليب يحفظ لها ماهيتها وعنوانها الشامل، ويدفع بها إلى تحقيق عناوينها الفرعية وأهدافها المرحلية والنهائية، وبالتالي الوصول إلى المستقبل المنشود الذي يترجم فكرة الرؤية، وتتبلور من خلاله مكوناتها.
والرؤية الوطنية القائمة ذات ركائز مرجعية تجعل أساليب تنفيذها تشكل امتداداً لها وجزءًا لا يتجزأ منها، فالمرجعية الدينية واحتضان الحرمين الشريفين وانعكاس هذه المزايا على مكانة المملكة في محيطها العربي والإسلامي، كل ذلك بوأها موقع الصدارة وجعل منها قدوة للأمتين العربية والإسلامية، الأمر الذي بقدر ما يضفي على رؤيتها خصوصية تدعم نجاحها، وتضيف إليها قوة إضافية تنفرد بها دون غيرها، بقدر ما يزيد هذا الأمر من الأعباء والتكاليف الملقاة على كاهل القائمين عليها، ويضع الأساليب التنفيذية على المحك والقائمين عليها في المعترك على نحو يستدعي استعراض كشف حساب الرؤية ومراجعة مدى الالتزام بإطارها وحدودها وقيودها من وقت إلى آخر، حتى تصل إلى النهاية المنشودة، مستفيدة من الإيجابيات ومحيدة السلبيات بالشكل الذي يعكس الحالة التي ينجم عنها تولد أساليب الرؤية من الرؤية ذاتها، واعتبار الأولى تنبع من الثانية وتمثل أهم الأدوات لتنفيذها وتحويلها من عمل فكري وخريطة طريق ذهنية إلى عمل محسوس وواقع ملموس، يتجاوز حدود الزمان والمكان إلى ما هو أبعد أثراً وأشمل تأثيراً.
ونظراً لأن نضوج فكرة الرؤية وتفعيلها يستمدان القوة وأهم معطيات النجاح من المرتكزات التي ترتكز عليها والمحاور التي تتمحور حولها، فإن المحرك الأول لكل هذه العوامل يعود إلى المرجعيات الدينية والقيمية وطبيعة الموقع والقوة الاستثمارية ذات البدائل المتنوعة، كما أن هذه المرجعيات تصنع منظومات قيادية وإدارية وخلايا عمل احترافية ضمن إطار الوحدات الانتمائية الرسمية والشعبية بحيث ينتج عنها بيئة تلتقي فيها الدوافع الدافعة من جانب والجواذب الجاذبة من الجانب المقابل بالصيغة التي تؤدي إلى خلق الأساليب وإيجاد الوسائل وكل ما من شأنه تفعيل دور الرؤية ونجاح مشروعها واستمرار تأثيرها .
ورغم هذه المرجعيات فإن هناك من أصحاب الأهواء، ودعاة الإغواء مَنْ يحاول الالتفاف على الدين عن طريق الرؤية، وذلك بالافتراء عليه واتهامه بتهم باطلة بحيث يصفونه بأوصاف بعيدة كل البعد عن عدله ووسطيته وتسامحه وصلاحيته لكل زمان ومكان، وهذه التجنيات على الدين ليست جديدة، بل تعتبر من المكرور الممل والمنكور المضل، حيث دأب أعداء الأمة على استهدافها في عقيدتها التي هي أعز ما تملك، منكرين على الدين موقفه من التعاملات المالية ذات النهج الربوي، ومتخذين من حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين مشجباً يعلقون عليه جانباً من تجنياتهم وافتراءاتهم.
وتفادياً لأية محاولة مشبوهة تهدف إلى إيجاد تنافر بين المرجعية الدينية وبين أساليب ووسائل الإصلاحات التي تتبنَاها الرؤية، تم التحسب لذلك مسبقاً عبر قطع الطريق على هؤلاء المشككين والمفترين من خلال تصريحات علنية ومواقف رسمية من قبل رأس هرم قيادة الدولة بأن المملكة تنطلق في رؤيتها للمستقبل من دينها الإسلامي ودستورها القرآني ونهجها الوسطي، باعتبار الانتماء الديني يحظى بالأولوية على كل انتماء، ويعتبر مرجعاً تعود إليه جميع المراجع، وهو يمثل الأساس والمنطلق لأي مشروع إصلاحي إذ في غيابه يبقى المشروع ناقصاً ولن يكتب له النجاح مهما تضافرت الجهود وتوفرت العوامل لإنجاحه.
والرؤية وما يرتبط بها من تحول وطني حتى يؤتي هذا المشروع أُكله، ويطرح ثماره، يحتاج إلى الربط بين عملية الإصلاح وبين عقيدة الأمة التي لا غنى لأية رؤية عن التحصن داخل حصنها والاسترشاد بمبادئها وقيمها، خاصة في ظل وجود الحرمين الشريفين على أرض المملكة والانتمائين الديني والقومي بالنسبة للعمق العربي والانتماء الديني فيما يتعلق بالظهير الإسلامي، وهذه المرجعيات الدينية والوحدات الانتمائية سوف يكون لها القدر المعلى واليد الطولى في نجاح الرؤية وضبط مسارها والمحافظة على استمرارها من خلال إيجاد معالم تفقدية ونقاط مرجعية على طريق الرؤية المرسوم واتجاهها المعلوم، وما المتحف الإسلامي والسياحة الدينية إلا غيض من فيض.
والسياحة الدينية منها ما هو موسمي مثل الحج، ومنها ما ليس له وقت محدد مثل العمرة وزيارة المسجد النبوي مع وجود مواسم للعبادة تزداد فيها العمرة والزيارة مثل شهر رمضان المبارك، وهذه السياحة تجمع بين الحسنيين بحيث تجمع بين خدمة ضيوف الرحمن وزوار مسجد نبيه من جهة، واكتساب الأجر وحسن الذكر من جهة أخرى، وثمة المردود الاقتصادي الذي يعود على الوطن من هذه السياحة التي إذا ما أحسن استغلالها والاستفادة منها فسوف تعود على البلد بالنعيم المقيم والخير العميم والعائد العظيم، وتتحول من سياحة مواسم محدودة الزمان والمكان إلى سياحة عامة، الأمر الذي يتطلب الاهتمام بالسياحة بمفهومها العام والتركيز على إنشاء متاحف إسلامية يشد السياح إليها الرحال من كل مكان، كما تشد الرحال إلى المسجد الحرام من مختلف أرجاء المعمورة وذلك في مواسم معينة لتأدية عبادات معينة، بالإضافة إلى تأدية العمرة بالمسجد المكي وزيارة المسجد المدني غير المحددتين بزمن من قبل المعتمرين والزائرين الذين يتوافدون من جميع دول العالم.
والمكانة الدينية التي تتفرد بها المملكة دون غيرها وخصوصية الموقع التي حباها الله به والثروات الموجودة على أراضيها، كل هذه المزايا يتحتم عليها استثمارها إلى أقصى حد لنجاج رؤيتها وتحرير اقتصادها من الاعتماد على النفط وتحولها من دولة مستوردة لمعظم احتياجاتها إلى دولة منتجة، يتوفر لها من قوتها الذاتية وإمكاناتها الوطنية ما يمكنها من القدرة على التصنيع والإنتاج ويجعلها في منأى عن الارتهان للأجنبي والضغوط الوافدة من الخارج، وهو أمر ليس بصعب المنال إذا ما توفرت من أجله الإرادة القيادية، وتضافرت في سبيله الجهود الجماعية، والتقى علو همة السلطة مع وعي المجتمع، وعندها يدرك الجميع ماذا يريدون وما الذي يراد منهم.
وعود على بدء فإن كل رؤية تنبع منها أساليبها، وهذه الأساليب بدورها تغذيها تغذية عكسية بما يثبت أنه بحسب طبيعة الرؤية وتوجهات مصدرها تكون الأساليب والوسائل المستخدمة لإنجازها، فالأساليب المبدئية التي تهدف إلى الإصلاح الحقيقي النابع من رؤية صالحة وصادقة من الطبيعي أن تكون هذه الأساليب صالحة في حين أن تلك الرؤى المزيفة يظهر زيفها وينكشف أمرها مع الأيام مهما غُلفت أساليبها بأغلفة يغلب عليها طابع التدليس والتلبيس، حيث إن شكل الشيء منعطف عليه، وما بني على أمر فهو لا محالة آيل إليه، والمسببات اللاحقة كفيلة بالكشف عن حقيقة الأسباب السابقة.
والأساليب تستمد صفاتها من صفات مصدرها وما ينطبق على الأصل ينطبق على الفرع، وكلما كان صاحب الرؤية على درجة من التميز الخلقي والإتقان المهني والإلمام المعرفي كلما كان قادراً على توصيل رؤيته إلى الآخرين، متبعاً الأسلوب الإقناعي، وموفراً لمن دونه البيئة المناسبة لاستخدام كل الأساليب الصحيحة والوسائل المريحة لإنجاز مهام الرؤية والوصول بها إلى أهدافها بفضل فهم المنفذين واقتناعهم بجدوى المهام المطلوبة منهم على المدى القريب والبعيد، وقيادة القدوة التي تمزج بين الترغيب والترهيب تستطيع الحث والإقناع لدفع المنفذين إلى اتباع الأساليب واستخدام الوسائل الموصلة إلى الأهداف والغايات المنشودة، وذلك كثمرة من ثمار الالتفاف حول مصدر الرؤية والاقتناع بها ومن ثم تطويع مختلف الأساليب وشتى الوسائل في سبيل المحافظة على مكونات تلك الرؤية بما يخدم الهدف ويضمن التقدم بثبات في حركة مستمرة ودائبة نحو الأمام.
وينبغي ألا يغرب عن البال أن الطرق التي تصب لصالح الرؤية ليست مفروشة بالورود والزهور، وإنما يعترضها الكثير من المعوقات والصعوبات، وتتربص بها المفاجآت المحبطة والمواقف المثبطة، الأمر الذي يتطلب من المخططين والمنفذين المثابرة والتحلي بالصبر مهما عاكست الظروف مع الأخذ في الحسبان أن امتلاك الرؤية ومعرفة اتجاهاتها سلفاً والإصرار على تنفيذها حتى النهاية أفضل بكثير من امتلاكها والتقصير في تحديد تلك الاتجاهات، مما يؤدي إلى اختلال عملية الإنجاز نتيجة للاضطرار إلى ارتجالها وتنفيذها خطوة خطوة حسب الإمكانية.
والواقع أن الرؤية في بداية تبنيها من قبل مصدرها يجرى تمريرها عبر حلقات متداخلة قبل أن تصل إلى العامة، وبعد أن تُعلن وتظهر إلى النور يتولى الإعلام تسويقها والترويج لها، وينطبق هذا الأمر على رؤية المملكة 2030م بدءً من إجراءاتها الأولية ومروراً بالموافقة عليها من قبل مجلس الوزراء، ووصولاً إلى الإعلان عنها ونشرها إعلامياً، وانتهاءً باضطلاع الإعلام بمسؤوليته نحوها من أجل وضعها موضع التنفيذ بالنسبة لوسائل الإعلام بهدف نشرها وتداولها أمام العامة بالشكل الذي يساعد على قبولها والاقتناع بأهدافها ومن ثم التسليم بما تدعو إليه.
وبالإضافة إلى دور الإعلام الذي لا ينتهي عن حد معين فإنه لابد من حضور القائم على الرؤية وظهوره على المشهد من وقت إلى آخر لزيادة القناعة وتبديد الشكوك حول أية ثغرات يتم اكتشافها أثناء التنفيذ حتى تكتمل دائرة الإيمان بها عقلياً والاطئمان إليها نفسياً، بوصف ذلك هو السبيل إلى التعرف عليها وطنياً وقبولها شعبياً بما يُحفز على تنفيذها والتطلع إلى نجاحها وإيجاد روح التحدي لتذليل الصعوبات وتجاوز المعوقات والتحديات.
والإعلام يتحمل مسؤولية جسيمة تجاه التحول الوطني نظراً لأهمية الموضوع وحساسيته حيث إن رسالة الإعلام في هذا المجال تعتبر رسالة وطنية ذات علاقة بسيادة الدولة ومصالح الوطن العليا، ناهيك عن مضمون الرسالة سواء في جانبه الإقناعي الذي يخاطب العقول والنفوس مطالباً إياها بالإيمان والاطمئنان نحو أمور مركبة بعضها ذو طبيعة شبه غيبية، والجانب الآخر يمثل عملاً تحفيزياً يختص بالأحاسيس والمشاعر وبث روح التحدي وعلو الهمة فيها في سبيل قضية وطنية مصيرية لا تقبل حلولا وسطا، ولا مجال فيها للمساومات والتنازلات.
وتوضيح حيثيات الرؤية وبيان الدوافع التي تدفع إلى بذل الجهود المخلصة من أجل تحقيقها والحوافز المحفزة في هذا الاتجاه، لم يكن ذلك التوضيح والتحفيز المطلوبين من الإعلام مقصورين على مكونات الرؤية وأهدافها والأحوال الاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية التي تتصل بها مباشرة، وإنما يتعين أن تشمل الخطة الإعلامية مرجعيات الرؤية والمؤثرات المؤثرة عليها والظروف التي يمر بها الوطن والأحداث التي تعصف بالمنقطة حتى تكتمل الصورة في ذهن المواطن بالشكل الذي يجعله لا ينخدع بالكلام الحسن إذا كان الغرض منه ضاراً، إذ إن الذين يسمُّون الناس يضعون السم في العسل، كما لا يستثقل الكلام الغليظ إذا كان الغرض منه نافعاً فالأدوية الجالبة للصحة شديدة المرارة.