اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لقد وجدت الدول الإسلامية نفسها مضطرة إلى الانتظام في تحالف عسكري لمحاربة التنظيمات الإرهابية التي جعلت من أوطان المسلمين مسرحاً لعملياتها، وأصبحت تهدد أمن دولها ومصالحها العليا، والاضطرار إلى إنشاء هذا التحالف تؤيده القناعات، وتؤكده المبررات، فلم يكن الدافع من ورائه الاعتداء على الغير أو البحث عن النفوذ وتكريس حق القوة على حساب
الآخرين، بل يكمن الدافع في الدفاع عن عقيدة الأمة وحماية المصالح المشتركة للدول المتحالفة في إطار قوة الحق ومشروعية الدفاع عن الدين والنفس، حيث إن اتساع المساحة الجغرافية التي يتمدد فيها الإرهاب وانتشاره في بلاد المسلمين، مرتدياً الرداء الإسلامي، ومتخذاً من اسم الإسلام غطاء يبرر به ممارساته، كل ذلك فرض على الدول الإسلامية أن تتحالف تحالفاً عقائدياً يضمن لها القدرة على مواجهة أدوات الإرهاب وردع رعاته على نحو ينفي عن الإسلام هذه التهمة، ويدحض افتراءات المفترين، ويوصد الباب أمام المتربصين عبر الاندماج في تكتل عسكري يجمع بين أعضائه قواسم جامعة من المصالح المتبادلة والغايات المتماثلة والسياسات المتكاملة.
ويعتبر تمرين رعد الشمال أول خطوة عملية على طريق تفعيل التحالف الإسلامي على المستويين العسكري والسياسي توطئة لما بعد هذه الخطوة من خطوات تفعيلية، تنقل التحالف من مرحلة النشوء والتكوين إلى مراحل متقدمة يستطيع معها القيام بمهامه والاضطلاع بمسؤولياته ، وصولاً إلى أفضل درجات التعاون العسكري وأعلى مراتب التحالف السياسي في إطار العقيدة الواحدة والمصلحة المشتركة وضد العدو المشترك.
ومن المعروف أن التمارين الحية التي يجري التخطيط لها بعناية، وتشترك فيها جميع صنوف الأسلحة وعدد ضخم من التشكيلات العسكرية ضد عدو يخوض معها صراعاً مسلحاً يدور في مسرح حرب أو جبهة لتحقيق غاية وطنية أو هدف إستراتيجي، يمثل ذلك حرباً خالية من مخاطرها بوصف هذه التمارين تحاكي حرباً حقيقية يتم التخطيط لها وإدارتها والتحكم في القوات العسكرية المشاركة فيها على مختلف مستويات الفن العسكري والأبعاد القتالية لهذا الفن الذي يعالج تخطيط وإدارة الصراع المسلح على المستوى الإستراتيجي بالنسبة للقوات المسلحة والجبهات والمستوي التعبوي (العملياتيّ) بالنسبة للتشكيلات، والمستوى التكتيكي بالنسبة للوحدات والوحدات الفرعية، وذلك بالشكل الذي يترتب عليه تأهيل هذه القوات للانتصار على التنظيمات الإرهابية في الصراعات القائمة والمنتظرة مع ردع مَنْ يرعاها ويقف خلفها سواء أكان الصراع على هيئة حرب سافرة مع رعاة الإرهاب أو على شكل حرب بالوكالة مع أدوات الإرهاب من عملاء وتابعين، ضمن صراع منخفض الشدة يختلف في مظهره وجوهره عن الحروب التقليدية.
والحلف في جانبه العسكري يحتاج إلى مثل هذه التمارين لإظهار البراعة في الإدارة والتنظيم، وما ينبني عليهما من حسن التخطيط والتنفيذ الذين يماثلان أرض الواقع في الحروب والمعارك المماثلة والمحتملة التي أنشيء التحالف تحسباً لخوضها، وهو أمر لابد من الاجتهاد لمحاكاته وتطبيقه في زمن السلم استعداداً لوقت الحرب، إذ إن القوات العسكرية مهما كان حجمها وكفاءتها القتالية لن تستطيع إنجاز مهامها الأمنية والعسكرية، ما لم تتسلح بالإدارة الناجحة التي تهتم بتوحيد وتوجيه الجهود البشرية والموارد المادية بغية تحقيق الهدف المنشود، كما تحرص على تأدية الواجبات في الزمان والمكان المناسبين ، مضافاً إليها التنظيم العسكري المتوازن الذي يجمع بين عناصر القتال في نسب صحيحة تتناسب طردياً مع دورها في المسرح، وتنسجم مع ما يطلب منها من مهام جسام ومسؤوليات عظام، وهذه العناصر تتألف في إطارها العام من القيادة والسيطرة وعناصر القتال والصدمة والنيران، وعنصر المساندة الذي يتكون من سلاح الهندسة، وأسلحة التدمير الشامل، والحرب الإلكترونية المضادة، ومضادة المضادة، وعنصر الاتصال، وعنصر اللوجستيك، وتتشكل على هيئة قوالب وكيانات تنظيمية تهدف إلى تأمين التوافق بين متطلبات المهمة وإمكانات المنفذ، بوصف التنظيم يمثل البناء الذي يتم فيه تجميع الأنشطة وتحديد الجهات المسؤولة عن تنفيذها، والإخفاق في التنظيم يعني الإخفاق في تحقيق نسب عناصر القتال واختلال التعاون والتنسيق فيما بينها، مما يفضي إلى اختلال في التوازن التكتيكي أو التعبوي أو الإستراتيجي للقوات المتحالفة، وبالتالي قد يؤول بها إلى الإخفاق والفشل في إنجاز ما هو مطلوب منها من مهام، الأمر الذي يتطلب التدريب على ذلك في زمن السلم لتبادل الخبرات في مجالات التخطيط والتنفيذ، وتوحيد المصطلحات والمواءمة بين العقائد القتالية والمذاهب العسكرية ونوع المهام المحتملة، وفقاً لمختلف أوجه المعركة التعرضية والدفاعية والعمليات الخاصة، وكيفية التعامل مع الصراعات المنخفضة الشدة، وطبيعة تضاريس ومناخ المسرح وموقف العدو.
وهذا النوع من التمارين، وما يتخلله من المناورة بالقوات والنيران أثناء مراحل تنفيذه يعتبر أفضل أنواع التدريب، نظراً لكونه أنجح وسيلة لاكتساب المعلومات والمهارات والفنون العسكرية التي بفضلها يتمكن المتدربون من احتراف المهنة وتطويع الكفاءة العسكرية لخدمة الكفاءة القتالية، وما لذلك من مردود عضلي وعقلي ينعكس على الروح المعنوية والعادات الانضباطية وروح الفريق، التي يعود إليها الفضل في تنمية روح القتال والرغبة في قهر العدو، وهذا الأمر لن يتأتّى للقوات المتحالفة إلا بوجود القيادة الواعية المرنة، وتضافر الجهود لحشد هذه القوات في الزمان والمكان المطلوبين لاستباق العمليات الإرهابية التي ينوي العملاء والوكلاء القيام بها وإجهاضها، وردع القوى التي ترعى الإرهاب وإجبارها على التنازلات وقبول أدنى الحلول، وحتى تنطبق الصفـة على الموصوف وينجح التمرين في استثمار وسائله وإيصال رسائله، فلا مناص أمام الجهة المستضيفة لقواته والراعية لفعالياته إلا أن توفر له عوامل النجاح، وتجعل منه صورة حية وترجمة عملية للعمل الحقيقي والواقع المنشود، عبر تحديد الأهداف العاجلة والآجلة والعمل على تحقيقها.
وتأسيساً على ذلك فقد أثبتت المملكة قدرتها على تجهيز مسرح العمليات من خلال البنى التحتية والمنشآت العسكرية، القادرة على استيعاب القوات المشاركة في تمرين رعد الشمال، فإلى جانب ترتيبات الإيواء والمرافق الإدارية والخدمية، تم تجهيز وإعداد مراكز القيادة والسيطرة وشبكات الاتصالات والمواصلات، والمطارات والقواعد الجوية والموانئ والقواعد البحرية، مستنهضة المملكة كافة طاقاتها ومسخرة كل إمكاناتها لتوفير احتياجات ومتطلبات القوات المشاركة بجميع قواها البشرية ومعداتها وآلياتها البرية والجوية والبحرية وعتادها العسكري بشتى أنواعه وصنوفه، والعمل الهندسي والدفاع الجوي، بالإضافة إلى توفير متطلبات المناورة سواء بالقوات أو بالنيران، مع الاهتمام بأماكن تموضع القوات في المسرح، وتعريفها بمهامها القتالية، مع الاستمرار في تدريبها ورفع كفاءتها القتالية، طالما كان الحلف قائماً والعدو ماثلاً ، وهذه الاهتمامات الأمنية والسياسية ماهي إلا جزء مما تقوم به المملكة من مهام وتضطلع به من مسؤوليات ضمن محيطها الخليجي والعربي والإسلامي، إذ إنها في الوقت نفسه تقود التحالف العربي في عمليتي عاصفة الحزم وإعادة الأمل في الصراع المسلح الدائر في اليمن، بحيث تشارك بالجزء الأكبر من قوات هذا التحالف سواء على حدودها أو داخل اليمن بما في ذلك فرض ومراقبة الحصار المفروض حوله ، علاوة على مشاركتها في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا مع استعدادها لنشر قوات برية في سوريا للدفاع عن الشعب السوري ومحاربة الإرهاب في هذا البلد.
واستكمالاً لتجهيز مسرح القتال وما يدور على أرضه، وتجسيد ذلك من خلال مجريات التمرين عمدت الجهة المشرفة على هذه التظاهرة العسكرية إلى تكليف قيادة التمرين بتفعيل حضورها، وتأدية دورها، عن طريق توزيع الواجبات والمسؤوليات بما يكفل خلق بيئة تشبه بيئة المعركة، بحيث تلتقي النظرية مع التطبيق، والدراسة تتحول إلى ممارسة، في جو يسود فيه الانسجام بين العناصر القتالية والتناغم بين القيادات والتشكيلات والخدمات، كما تتجلى فيه مهارة الرئاسات والهيئات الركنية، بالإضافة إلى حرص الجميع على بلوغ مستوى متقدم في درجة التوحيد والتماثل بين المعدات والأسلحة والذخائر وقطع الغيار، والسيطرة على وسائل الاتصال، وضمان تدفق المعلومات من مصادرها في مكانها وزمانها، وكذلك تأمين المتطلبات اللوجستية بجوانبها الإدارية والطبية والفنية، مع ضبط التعابير والمصطلحات المستخدمة، وتحييد السلبيات الناجمة عن اختلاف المذاهب العسكرية، والعقائد القتالية، حيث إن أي صراع مسلح تخوضه قوات عسكرية لدولة ما، لا غنى لهذه القوات عن الاهتمام بجميع مكوناتها وعناصرها، وتأمين مطالبها التي بدونها لا تقدر على منازلة العدو، فكيف بالتغلب عليه، وإذا ما كان هذا هو حال الدولة الواحدة، فماذا عن عشرات الدول المتحالفة التي تقاتل قواتها على مسرح جديد بالنسبة إليها، وتختلف مشاربها ومذاهبها من حيث التدريب والمصطلحات ونوعية التسليح ومصادره.
والتدريب الجماعي والتطعيم للمعركة يمثلان ضرورة حتمية للقوات المتحالفة لبلوغ المستوى المنشود من المهنية والاحترافية بما يضمن إتمام دائرة العمل ودفع دولابه إلى الأمام في سبيل تحقيق الهدف المشترك، في إطار الرؤية الجماعية، بعيداً عن الارتجال وترك الأمور للمصادفات ، إذ إن تلبية مطالب الحرب الحديثة، تستلزم التركيز على الاستفادة من قوة الصدمة وانتشار القوات، وزيادة معدل النيران المؤثرة من خلال المناورة بالقوات والنيران، مع الاستخدام الصحيح لكل من القوات الجوية وقوات الاقتحام الجوي الرأسي، والقوات الخاصة، والدفاع الجوي، والأسلحة الصاروخية، والأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وما يتطلبه ذلك من امتلاك للمبادأة والقدرة على التكيف مع التقانة ومستجداتها، على النحو الذي يؤدي إلى احتراف المهنة ويجعل من التدريب في السلم وسيلة لتحقيق النصر في الحرب، ومصداقية ذلك تكمن في حب العمل والإقبال عليه، والشعور بالمسؤولية والانتماء وروح الفريق.