د. خالد محمد الصغِّير
بادرني بقوله بنبرة حادة: «أنت ومن يتصدون للكتابة في صحفنا المحلية تسعون دومًا للبحث عن أخطاء هنا وهناك ومن ثم العمل على تضخيمها وتصويرها، أو تقديمها لنا نحن القراء على أنها ثالثة الأثافي ومشكلة المشاكل، وهي في الواقع على بعد مسافة بعيدة عن وصمها بذلك، أو هي في الأحرى أخطاء هامشية لا قيمة لها.. وفي ظني أنكم تقومون بذلك من أجل إضافة مزيد من الهالة لشخوصكم ككتاب، ورغبة منكم في تقديم أنفسكم كحاملين للواء الإصلاح، وموقدي شموع التنوير والتطوير الاجتماعي لأفراد المجتمع.. فرجائي أن تكفوا عن مزاولة الرقص السمج على أخطاء مجتمعية أو قضايا لا تكاد تشكل هاجسًا مقلقًا إلا في أذهانكم وتصوراتكم الناقصة». كان هذا جزءًا من حديث هجومي - إن جاز لي تسميته بذلك - من إنسان التقنية في مجلس شخص عزيز، بادرني به قبل أن ألتقط أنفاسي، وآخذ مقعدي في ذلك المجلس في منزل مضيفنا الكريم.
وبعد أن انتهى من كلامه، أو بعبارة أدق هجومه الكاسح، بادرته بأن حييته على صراحته، ومن ثم عقبت بقولي: يبدو أننا ننظر للأمر من زاويتين مختلفتين. أنت مع الرأي القائل بغض الطرف عن تعرية نقائص المجتمع ومعالجتها على مرمى ومسمع الجميع، وكأني بك مع الفريق المنادي بعدم نشر الغسيل المجتمعي السلبي على الحبال المشرعة في قارعة الطريق؛ ليراها كل من هب ودب، ومع الداعين بقوة لمناقشة قضايانا الجوهرية تحت قبب تعتلي قاعات أبوابها موصدة بشدة؛ حتى لا يسمع من في خارجها دبيب المناقشة الدائرة في تلك القاعات المحكمة الإغلاق أبوابها، بينما نحن - وأعني من تسميهم أنت معشر الكتاب المتصدرين صدر صحفنا المحلية.. واسمح لي على الأقل أن أتحدث باسم البعض منهم - يخالفونك الرأي معتقدين بعكس ذلك؛ والسبب أننا لا يمكن أن نخطو خطوة للأمام ما لم نضع أصابعنا على مَواطن الخلل في كل قضية من قضايا المجتمع ومشكلاته، وبخاصة المصيرية منها. ونحن أيضًا نرى أننا ما لم نتصدَّ لها وهي في مهدها فإننا سنواجه صعوبة أكبر عند استفحال أمرها واتخاذها صورة الظاهرة الاجتماعية السلبية.
إننا ننطلق في جهدنا هذا ليس من باب تصيد الأخطاء وتضخيمها، بل محاولة لتلمس مكامن الخطأ في تعاطينا مع قضايانا الاجتماعية والتربوية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية، وغيرها من القضايا في مختلف الحقول والمجالات، وإظهار فداحة السكوت عن طرح مشاكلنا وهمومنا، وإبراز النتائج السلبية التي قد تترتب من جراء صنيعنا هذا على المنظومة الاجتماعية بكل أطيافها وتشعباتها. وحين أقول ذلك لا يعني أننا نرى أن طرح بعض الكتاب وطريقة معالجتهم لبعض القضايا لا تشوبهما شائبة، بل إن المتابع يلاحظ أنه في بعضه خواء، لا يقدم ولا يؤخر؛ لأنه يلامس أطراف المشكلة أو القضية من غير إحاطة بجميع معطياتها وجوانبها المختلفة، وبدون تقديم حلول واقعية قابلة للتطبيق، وفي أحيان تكون الرغبة فقط في تسجيل موقف شخصي، يسعى له الكاتب، محاولة منه لإيهام القارئ باطلاعه ومتابعته لما يجري على الساحة المحلية من قضايا ومشاكل من غير سبر لأغوارها، ومسبباتها، ويدون مدنًا بالطرق الأنجح لتجاوزها والقضاء عليها، ونجده كذلك في جزء منه ما هو إلا محاولة من الكاتب لاستغلال المساحة المعطاة له للتغطية على من له يد فيها على حساب مصلحة الوطن والمواطن، أو الخوف من تبعات طرحه الصريح والواضح للقضية المطروحة للنقاش، أو محاولة منه لكسب رضا وإشادة القارئ على حساب تجلية حقيقة القضية المشكلة.. ومن هنا فالكتابة عند هذه النوعية من الكتّاب تكمن فقط في البحث عن المشكلة، وليس تحليلها ورصد أبعادها، وتشخصيها ووضع الحلول الناجحة لها التي تتسم بالواقعية وإمكانية التطبيق العملي على أرض الواقع.
ولكننا حين نهم بإصدار حكم نحاكم فيه عددًا كبيرًا من الكتّاب، تزخر به صحفنا المحلية، يجدر بنا ألا نأخذ في الحسبان هذه الفئة القليلة ذات التوجهات الكتابية غير السوية، وإنما ينبغي أن نضع في اعتبارنا العديد من الكتّاب الذين يضعون نصب أعينهم المحصلة العليا فوق كل اعتبار، ويحاولون أن يمارسوا من خلال كتابتهم وأطروحاتهم دورًا إيجابيًّا، يحاولون فيها توجيهنا الوجهة الصحيحة من خلال طرح يمتاز بالاتزان والصدق في الطرح والموضوعية، والنأي بأنفسهم عن مجرد الرغبة في تصيد أخطاء ثانوية لا تخدم هدفًا عامًّا.
وهؤلاء الكتّاب ناتج وإفراز طبيعي لسياسة الانفتاح الإعلامي الذي تعيشه الأجواء في المملكة، والذي تمت ترجمته بفتح مساحات وهوامش من الحرية بدرجة ملموسة أمام الكتّاب لمناقشة الأوضاع والقضايا الداخلية بكل شفافية واتزان وحيادية من أجل تلمس سبل راحة المواطن ورفاهيته، ومحاولة إثراء الرأي العام.
وهم في كتاباتهم يقدمون رؤية شمولية ذات تحليل عميق، يراعي خصوصية المجتمع، وينظرون بعين الرقيب والراصد للتحولات العالمية وانعكاساتها الداخلية، ويحاولون الابتعاد مسافات عن مجرد محاولة استثارة وتأليب الرأي العام، وهم يدركون أيضًا أن قضايانا ومشاكلنا المحلية ما هي إلا تراكمات لتحولات في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التربوية والثقافية والإعلامية، شهدتها ساحة مملكتنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، التي أفرزت مجموعة من القضايا والمشكلات، ها نحن نحصد نتائجها اليوم، وهم مدركون حجم مسؤولية قيادة الرأي العام، وتثقيفه وتنويره، وتوعيته تجاه قضاياه ومشكلاته المصيرية.
وبالعودة إلى صاحبنا الذي كان حديثه الهجومي موقد وباعث الكتابة في هذا الموضوع، فإنه أغفل أن ما يمارسه كتّابنا الأجلاء ليس بدعًا خاصًّا بنا، وإنما هم امتداد للدور الذي يقوم به عادة الكتّاب في أصقاع الأرض قاطبة حين يحاولون بهدوء ورصانة معالجة كل ما من شأنه تقويض أركان مجتمعاتهم، وهدم مكتسباته مستخدمين في ذلك سلاح الكتابة، وبخاصة التحليلية المشفوعة بالمعلومة الدامغة، أو الرقم الدال لمعالجة قضايا المجتمع المفصلية، وحشد الرأي العام ضد أي ظاهرة سلبية، وتسليط الضوء عليها، وتشخيصها على أساس علمي، ومحاولة كشف أسبابها، ووضع الحلول والمقترحات لها؛ فهم في نهاية المطاف كما يرى المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي من يحمل كبد الحقيقة.
وصاحبنا ومَن على شاكلته غاب عن ذهنه أيضًا أن مجتمعنا السعودي ليس مجتمعًا مثاليًّا ملائكيًّا خاليًا من سلبيات ومشكلات تطول العديد من الحقوق والمجالات، وإنما هو كغيره من المجتمعات البشرية. وبما أننا لسنا بمعزل عن النسق العالمي فيجب ألا ندفن رؤوسنا في الأرض كما النعامة، منادين على من يحملون همنا ألا يتحدثوا بصوت عال مجلجل عن همومنا ومشاكلنا وقضايانا محاولين بذلك قطع الطريق عليهم، والوقوف حجر عثرة أمام رغبتهم المستميتة في نقلنا إلى درجات عليا نحو منصات الأمم المتحضرة الراقية من خلال فعل المصارحة والمواجهة ومناقشة مثلبة وسلبية محلية هنا وهناك أمام النظارة. ويجب أن نقر بأن سر التقدم الحضاري مرهون بالاعتراف بالخطأ، وفتح الأبواب مشرعة على مصراعيها للمناقشة والتصدي بصورة علنية لقضايانا الجوهرية من على أعمدة صحفنا المحلية، وبأقلام أمينة، تحتاج منا للدعم والتأييد والتشجيع؛ حتى يكون النجاح حليف رغبتهم في لعب دور ريادي في إصلاح الواقع الذي نعيشه من خلال محاولتهم الجادة تسخير الخمسة المخلصين أساتذة أرسطو: ماذا ولماذا ومتى وأين وكيف؟