إبراهيم عبدالله العمار
قال الله في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. الكثير من التفاسير تؤول شيوع الفاحشة هنا بأنها التكلم بها بغرض تهوينها، فتقول فلانة إنها سمعت أن علانة فعلت كذا وكذا، وينتشر الخبر، ثم خبر آخر عن فتاة أخرى، وهكذا يهون الأمر على الأسماع. إذا سمعت أن شخصين في الحي الذي تسكن فيه تضاربا، ثم سمعت عن شخصين آخرين بعدها بأيام، ثم تكررت أخبار التقاتل والتضارب بالأيدي، تهون المسألة على الناس (سواء كانت صادقة أو لا)، ويصير التشاجر ليس شيئًا مستغربًا في تلك المنطقة حتى لو لم يرَ أي شخص أي قتال بالأيدي عيانًا.
كلمة نراها كثيرًا.. «حافظ على نظافة مدينتك»، تحثك على عدم رمي النفايات في الأماكن العامة. وأظنك عرفت الرابط الآن بين هذه الفقرة والسابقة: نعم، إذا رميت النفايات فإن هذا يؤثر على غيرك من الناس، ويجعلهم يتهاونون في هذا. لو دخل أحد هؤلاء الموسخين حديقة بالغة النظافة فسيتردد في رمي نفاياته، لكن إذا رأى أكياس الطعام والعلب الفارغة في كل مكان فسيرميها براحة بال.
لكنني لم أذكر هذا فقط لأحثك على عدم رمي النفايات في الشوارع والحدائق. إن تأثيرك على غيرك من الناس أكبر مما تظن؛ لأنك جزء من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها غيرك من الناس. البيئة تأثيرها ضخم، وقد تكون أنت القشة التي تقصم ظهر البعير، وتجعل الرائي يفعل كما تفعل، سواء تفحيطًا أو رمي نفايات أو كلامًا بذيئًا أو ذنبًا أو تهاونًا في شيء مهم.. وانظر لما حدث في نيويورك.
هذه الدراسة المدهشة ذكرها مالكوم غلادويل في كتابه «نقطة التحول»، وفكر في وضع هذا الكتاب لما رأى هبوطًا مفاجئًا للجريمة في تلك المدينة. سعى أن يعرف سبب هذا الانخفاض، وقال في كتابه إن السبب هو «النوافذ المكسورة». ما هذا؟ إنها من نظريات علم الجريمة، وتقول إن المراقبة والعناية بالأماكن العامة لمنع المخالفات والجرائم الصغيرة، مثل التوسيخ والتخريب، تصنعان جوًّا من الترتيب والنظام، وهذا يمنع ليس الجرائم الصغيرة فقط بل حتى الكبيرة. هذا ما يبدو أنه حدث في نيويورك، فاقترح بعض خبراء الجريمة على مراكز الشرطة أن يركزوا على الأشياء الصغيرة، مثل من يقفز الحواجز؛ لئلا يدفع رسوم المترو، أو من يسكر علنًا، أو من يوسخ الجدران.. أشياء صغيرة لم تهتم بها الشرطة. وهذا ما فعلوه. ومن أمثلة ذلك نظام المترو الذي امتلأت جدرانه وسقوفه بكتابات المراهقين بالبخاخات. قرر المسؤولون تنظيف تلك القطارات، وداوموا على هذا بصبر، وكثيرًا كانوا يزيلون تلك الكتابات وفورًا يوسخها العابثون المجهولون، وكلما انتهى قطار من مساره وعاد للمحطة الأولى.. فورًا ذهب فريق ونظف كل جزء من القطار. بعدها قبضت الشرطة على كل من يقفز الحواجز، وربطوهم بسلسلة في مكانهم ليراهم الناس. من سكر علنًا قُبض عليه أيضًا. بعد فترة من هذا بدأت الجريمة في المترو تنخفض وتنخفض، واستمرت في الانخفاض بشكل مدهش. معقول؟ معالجة أشياء صغيرة كهذه تؤثر على جرائم كبيرة كالسطو والتحرش والعنف؟
نعم، الأشياء الصغيرة - خاصة إذا تراكمت - يمكن أن تؤثر على أشياء أكبر.. أشياء لا يبدو أنها متعلقة بها. ولعل هذا من أسباب تحذير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الاستخفاف بالصغائر، فيقول: «إياكم ومحقرات الذنوب»، فهي قد تكون صغيرة ومغفور بها - بإذن الله - لكن الاستهانة بها قد تجذب تدريجيًّا أشياء أكبر، كما تنص نظرية النوافذ المكسورة؛ لهذا لا تستهن بكل صغيرة، سواء كلمة أو فعلاً، وفكِّر: هل يمكن أن تؤثر هذه على ما هو أكبر منها؟