قاسم حول
سيدي صاحب المؤلف الأنيق أو غير الأنيق، المطبوع في بيروت أو في قطر أو في مطابع ألمانيا والسويد، وسواء كان مؤلفك ديوان شعر أو رواية أو دراسات في الكون والأكوان أو في الفلسفة والميثولوجيا، أرجوك ألا تبعث لي بكتابك الذي تصدره، دعني أنا أذهب بنفسي إلى المكتبة أو إلى معرض الكتاب أو شوارع الكتب القديمة في المدن العربية القديمة وأشتريه، لأنني في مثل هذه الحالة سوف أقرأه، لأنني دفعت ثمنه نقداً.
أنا جداً أعتز أنك اخترتني كي أقرأك، ولكي أرحل مع مخيلتك وأسافر لعوالم قد لا أعرفها وحتى لو عرفتها فإنك تعرفها بطريقة تختلف عني، قد تدلني إلى تفاصيل يصعب علي اكتشافها إن كنت سيدي مؤلف الكتاب الأنيق أو حتى المتواضع في أناقته، فأرجوك ألا تهديني كتابك ولاسيما وأنت قد تقيم في بلد ناء بعيد عن المكان الذي أقيم أنا فيه!
لو كنت روائياً، وتطمح أن يقرأ من بين قرائك مخرج سينمائي، تظن أنه سوف يهيم ولهاً في إحداث وشخصيات روايتك، وقد تكون روايتك كذلك، فإن هذا المخرج العبقري المسكين، سوف يتحسر لأنه لا يجد المنتجين وأصحاب المال من الأثرياء العرب، يهدونه المبلغ الكفيل بإنتاج روايتك العظيمة، فهو قد يحصل على عشرة بالمائة فقط من صندوق «سند» وعشرين بالمائة من صندوق «إنجاز» وخمسة عشر بالمائة من صندوق «برنس كلاوس» وبالتالي تضطره روايتك لأن يقف في أحد شوارع الهند ويزاحم الشحاذين وسوف لن يتمكن من الحصول على المال كي يستكمل ميزانية إنتاج روايتك. وهذا قد حصل معي ايضا، حيث حصلت على خمسين بالمائة من مشروع فيلمين وبدأت أشحذ مع الشحاذين الهنود والله العظيم، حتى نضحت عرقاً من شدة التعب وأخجل أن أقول من شدة «الخجل»! فدفعت أجوري لاستكمال أفلامي! فتذهب أحلامك أدراج الريح وأنت ترحل بمخيلتك متصوراً هذا السينمائي المتعب مشغول بكتابة سيناريو لروايتك الجميلة وهو يتمتع بأحداثها ويبدع في إعادة بنائها سينمائيا، وسوف يكتب اسمك على الشاشة إلى جانب اسمه. وبدلا من أن يكتب اسمك على كتاب صغير، فسوف يقرأك المشاهدون على شاشة عريضة واسعة، وسوف يدفعون مرغمين ثمن التذكرة السينمائية وستضحك كيف أنهم عزفوا عن دفع ثمن الكتاب البسيط حينها، وسوف تخصص لك نسبة من واردات شباك التذاكر. لو كنت سيدي مؤلف الرواية قد ولدت في المكان الصح والزمان الصحيح لفرضت روايتك نفسها على القارئ وهو في قاطرات وقطارات أوربا تسبح مخيلته في مياه مخيلتك، وسوف تكتب عنها النقود وتفرض نفسها بالتالي على المخرجين!
أنت سيدي مؤلف الكتاب تجمع من مخصصات جهدك، وتقضم قطعة من خبز أطفالك، وتحرم نفسك من شراء بدلة حلوة أنيقة، تمشي دونما إحراج إلى جانب زوجتك في زيارة الأصدقاء، كل ذلك من أجل أن تدفع للناشر ثمن المطبوع، ويخصص لك حصة قوامها مائة نسخة أو ربما خمسين نسخة ويشترط عليك دفع قيمة شحن الكتاب إلى حيث تقيم فتدفع مبلغا قد يعادل ثمن الطباعة لشركة الشحن. ثم تبدأ باختيار الأسماء «الهامة» وتبحث عن عناوينهم وتدفع مرة ثالثة كلفة البريد وأنت تحلم أحلاماً وردية مشروعة، كيف سيقرأ الأصدقاء والمبدعون روايتك وتنتظر نبأ تسلمك رسالة ألكترونية حين تفتح بريدك كل صباح ولكن الرسالة لم تكن في بريدك .. فقط تأتيك رسائل الغانيات اللواتي استطعن الحصول على بريدك الإلكتروني من خلال عبقرية السماسرة في اختراق شبكة النت في حاسوبك!
ولو كنت شاعراً، وتطمح في أن يقرأك شاعر سلطت عليه الأضواء موهوباً أو محظوظاً، وحصلت على عنوان هذا الشاعر، فترسل إليه كتابك، وأكيد سوف لن يسمح وقته ليس بقراءة مؤلفك، بل لن يسمح وقته حتى بكلمات شكراً حين يصله الكتاب، والرسالة لم تعد تحمل طابعاً بريدياً، فهي رسالة إلكترونية يستغرق تدوينها وإرسالها ثوان معدودات، ولم يفعل الشاعر ذلك الامتنان بكلمة شكر!
حين ذهبت إلى بغداد عام 2009، زرت شارع الكتب والمكتبات، المسمى «شارع المتنبي» حيث يفرش عشاق المكتبات حصيراً من الخيش يضعون فوقه الكتب القديمة والنادرة، وأنا أتصفح الكتب، وجدت ديوان شعر من شاعر شاب كتب الإهداء ديباجة حلوة، أكيد فكر بها كثيراً قبل أن يسطرها، والأهداء للشاعر «محمود درويش». كيف وصل الكتاب من فلسطين إلى شارع المتنبي في بغداد، ذلك ضرب من المستحيل. أكيد أن محمود درويش في إحدى زياراته إلى بغداد، يطمح الشعراء الشباب في أن يقرأهم، فحصل الشاعر الشاب فرصة للقائه فأهداه ديوانه المطبوع حديثاً، وأكيد محمود درويش تسلم الكثير من هدايا الكتب لا تستوعبها حقيبة السفر. فأهداها بدوره إلى السائق الذي يوصله إلى المطار.. وقد فرش السائق بعد كل السنوات العجاف حصيراً من الخيش في شارع المتنبي ليبيع كتب الزائرين لمهرجانات المربد العراقي.. فيما الشاعر الشاب لا يزال يحلم بإعجاب الشاعر الكبير أن تأتيه رسالة على بريده الإلكتروني الذي يخترقه سماسرة الغانيات!