قاسم حول
كل الذين شاهدوا فيلمي الروائي الطويل «بغداد خارج بغداد» قالوا عنه إنه «بغداد داخل بغداد»، في عمان بالأردن، في القاهرة، في المغرب.. أصروا أن الفيلم هو «بغداد داخل بغداد» لأنني سبرت أغوار المدينة والوطن بحنان وخوف!
وهذا ما حصل لي:
بعد غياب أكثر من أربعين عاماً عن وطني «العراق» عدت ليس بصدد كتابة سيناريو وليس بصدد إخراج فيلم عراقي، بل لمشاهدة الوطن لأنني حين تركت الوطن وعمري تسع وعشرون عاماً، كنت أتصور أني سأجد الأشياء بمكانها والناس بأعمارهم حين تركتهم، أنهم لم يكبروا، فالأطفال يبقون أطفالاً والشباب شباباً والشيوخ شيوخاً وأنهم لم يموتوا بعد.. مقاهي بغداد في شارع أبي نؤاس وشارع الرشيد وفي باب المعظم سأجدها وأجد فيها الشاعر الرصافي والزهاوي، وأجد إسطوانات «جقمقجي» في منطقة «السنك» ويغني فيها «مسعود عمارتلي» وأجد «جعفر لقلق زاده» يخرج من الكابريه ويشارك في التظاهرات المناوئة للحكومة، وأجد السياب مهاجراً وهو لم يعد في نعشه الأبدي في يوم ممطر عائداً وهو يردد «كتبت اسمي على صخرة، على آجرة حمرا، هنا في وحشة الصحرا، على قبري، فكيف يحس إنسان يرى قبره».
عندما عدت إلى العراق وسافرت من مدينتي نحو بغداد، لم أجد أصدقائي، ويبدو أنهم كبروا ثم ماتوا.. ولم أجد المقاهي ولا صالات السينما ولا مشرب الشاي تحت ضوء القمر. فانتابتني حالة من الخوف الحقيقي، وكتبت شيئاً على الحاسوب، حالات متداخلة وغريبة لا تربطها «حدوته» سينمائية تقليدية، وناضلت أن أحولها إلى فيلم أعبر فيها أن بغداد التي أعرفها قد رحلت خارج بغداد.. فاستعدت بغداد التي عرفتها وكأنها لا تزال كما تركتها وهاجرت.. قلت وأقول «ناضلت» من أجل تصوير فيلم سينمائي، لأن النضال صراحة هي كلمة شريفة ومشروعة لكنها لا تصلح في عالم مليء بالمتربصين من اللصوص والأنذال الذين دهموا المدينة فزادوني رعباً. ومشكلتي أن أداتي التعبيرية هي السينما، تحتاج إلى مال وممولين. والممولون ليس لهم نصيب عندي، كما أنني ليس لي نصيب فيهم. وسط هذه المعادلة لم أكن أناضل من أجل تصوير فيلمي بل يمكن استبدال كلمة «نضال» بكلمة «عراك»، وهكذا انتصرت ليس لأنني أملك بندقية وليست لي عشيرة ولا أؤمن بالطوائف ولا بملوكها، لكنني كنت أملك تاريخاً أستطيع أن أرفع رايته فانتصرت في أن أنجز الفيلم حتى لو سرقوا تعبي أجراً! وكنت أريد الفيلم ولا أريد أجوري!
هو الفيلم الآن بين يدي، ولكثر ما أعطيت حناني فيه ورسمت دموعي عليه وتشبثت بماء أهواره وزاقورة السومريين، وسيدوري صاحبة الحان وجلجامش الجبروت الذي خاف الموت بسبب موت صاحبه وخله «أنكيدو»، فإن كل من شاهد الفيلم وهم كثر من النقاد والجمهور الحي صاحوا أنها «بغداد داخل بغداد» لأنني دخلت في عمق أعماق المدينة حتى وأن رحلت بغداد خارج جغرافيتها .. لقد استدعيت التاريخ كلكامش وأنكيدو وشمخه وسيدوري وجعلتهم شهوداً على تاريخ معاصر .. أخذت ما دهمني من الصور الماضية فصورتها بتفاصيلها ومكوناتها ومكثت في الأهوار حتى بعد منتصف الليل ليلتين لتصوير مشهد طوله ثوان، وحيث باتت الأهوار منطقة خطيرة محفوفة بمخاطر الخطف والسلب والنهب. وتركت المواد المصورة لدى المخرج المساعد الصديق الوفي «حيدر محمود» فجلبها لي إلى تونس ومكثنا نعمل سوية على مدى شهرين، ثم أكملت تصحيح الألوان في اليونان مع المونتير والمخرج الصديق «مروان عكاوي» وأصبح الفيلم تاريخاً لبغداد التي لم تعد بغداد التي عرفتها ولا حتى التي لم أعرفها. باتت بغداد مدينة لا هوية لها ولا تاريخ!
عندما أنجزت تصوير الفيلم لم أعد «عارفاً» الكلام ولا مفردات اللغة سوى لغة السينما. أصبت بصدمة الصمت قبل موعد الطائرة لثلاثة أيام وبقيت ساكتاً، أثار سكوتي الكامل استغراب أهلي وقد أتخذت من الخان مسكناً لي قبل موعد الطائرة «سكنت الخان في بلدي كأني أخو سفر تقاذفه الدروب» كنت ساكتاً حقيقة لا مجازاً طول ثلاثة أيام، كمن أصيب بجلطة دماغية فمسحت المفردات واللغة والأسماء من ذاكرته حتى استعدتها بعد وصولي إلى هولندا!
فيلم «بغداد خارج بغداد» فخور اليوم أن أضع اسمي على شاشته لأنه سجل بحنان قراءة التاريخ الذي رحل.. وأخشى بعد ذلك من رحيل الجغرافيا!
هذا هو فيلمي الحنون الذي وصفه الناقد العربي الكبير «أمير العمري» بأن فيلم «بغداد خارج بغداد» يشبه «مومياء شادي عبد السلام» في تاريخ السينما العربية.. وكان على صواب.