أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لِيْ عَوْدَةٌ إنْ شاء الله تعالى إلى إتْمامِ ما بعد الحلقة الرابعة مِن بَحْثِي (الْفَهْمُ الإنسانيُّ الْمُشْتَرَكُ)؛ وذلك بِسَبَبِ اِهْتِمامي بأصداءِ حَفل النادي الأدبي في الدمام الذي كُرِّم فيه عَدَدٌ من الأعلام.. وقد بدأ الحفل في يوم الثلاثاء 27-6-1437هـ
(تحت رعاية صاحبِ السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله) مساءً في الساعة الثامنة؛ وكان ينتظر سُمُوَّه ثلاثُ مناسباتٍ؛ فَحَضَر افتتاحَ الحفل، وَسَلَّم دُروعَ التكريم، وكَلَّف مَن يُسَجِّلْ كلَّ وقائعِ الحفلِ إلى نهايَتِه؛ ومن ثَمَّ جرى استئنافُ وقائعِ الحفلِ منذُ مغادرةِ سُمُوِّه.. وبدأت الأمسية بمحاضرتي، وتلاها جلستان بينهما مقدار نصف ساعة للاستراحة، وبعد الأمسية الثانية كان الجلوسُ على مائدة العشاء، مع محادثاتٍ نَدِيَّة، ولم نغادر مكاننا إلا بعد صلاة سنة الفجر؛ وهي سنةٌ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُها؛ فبعد الاستفتاح بلا إقامَةٍ بعده يَقْرأُ سورة (قل يا أيها الكافرون)، ثم يركع ولا يزيد على قوله: (سبحان ربي العظيم)؛ وأظنُّ ولست على يقينٍ أنه يضيف: (سبحانك اللهم اغفر لنا)، ثم يسجد، ولا يزيد على قوله: (سبحان ربي الأعلى، سبحانك الله اغْفِرْ لنا)، ثم يجلس ويقول: (ربِّ اغفرْ لي، سبحانك اللهم اغْفِرْ لنا)؛ فإذا قام للركعةِ الثانيةِ قرأ سورة (قل هو الله أحد) على نحو ما سبق.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ سُنِّةَ الفجرِ، ويقْرَؤُها في حجرته لأنه إمامُ المسلمين يُصَلِّي بهم.. ويُخَفِّفُها بأمي وأبي ونفسي هو؛ لأنه قضى ثُلَثَيْ الليل أو نصْفَه في التَّهَجُّد؛ فأين فِعْلُنا مِن فِعْلِه؛ والخيارُ مِنَّا من صلى ثلاثَ ركعاتٍ للوتر، وربما قرأَ قَبْلَهُنَّ ركعتين يطيلُ فيهما؛ فيكونُ مُتَهَجِّداً بعض الشيء إلا مَن شاء ربِّك مِن أشياخيَ الذين أدْركْتُهمْ كشيخي العلامَةِ العابِد سماحة الشيخ ابن بازٍ رحمهم الله تعالى، ولا يَسَعُنا إلا الاقتداءُ برسول الله صلى الله عليه وسلم في تَخْفِيْفِ سُنَّةَ الفجرِ؛ لأن الله أمرنا بأنْ يكون رسولُ اللَّهِ أسوتَنا في أفعالِه إلا ما قام الدليل على أنه من خصائصه كالوصال في الصوم وإنْ قَصَّرنا غايةَ التقصيرِ بالتأسِّي به في التهجد.. ثم صلَّينا فريضَةَ الفجرِ.. وفي الجلستين بعد محاضرتي حصلتْ مداخلاتٌ مني ومن غيري؛ ولكنَّ مداخلتي اِتَّسَمَّتْ بالشفافِيَّة والتأنيس في عمومها، وبِعَرْكِ الأذُنِ في بعضها؛ ولكنَّ القومُ رياضِيُّونَ، وَمَبْدَؤهم هو مبدئي: (إنَّ اختلافَ الرأيِ لا يُفْسِدُ للودِّ قضية)، وأظنُّ أن أوَّل مَن قالها أحمد شوقي في إحدى مَسْرَحِيَّاته الشعرية).. كانت مداخلتي الأوْلَى عن مسألةِ الْحُرِّيَِّ؛ فقد رأيتُ القومَ جميعَهم بلا اِسْتِثْناءٍ يُلِحُّوْنَ على إيجابِ التَّمَتُّع بالْحُرِّيَّةِ على الفردِ والْمُجْتَمَعِ والدولةِ؛ فكانتْ بِدايةُ مُدَاخَلَتِيْ بِعَرْكِ الأُذُنِ؛ فَبَيَّنْتُ لهم ما يَقْتَضِيْ مِنِّي تحليلاً دقيقاً مُسْتَوعِباً للواقع على هذا النحو:
أوَّلاً: أنَّ حُرِّيَّة التَّفْكِيْرِ لا حُرِّيَّةَ السُّلُوكِ حقٌّ ضروريٌّ في فِطْرَةِ الله سبحانه وتعالى، وَحَقٌّ واجبٌ أوْ مُباح (ولِتَحْقِيقِ ذَيْنِكَ حديث يأتي إن شاء الله تعالى) في شرعِ الله، وهو أيضاً حقٌّ للفردِ بِحُكْمِ أنَّ تَفْكِيْرَه نِيَّةٌ مُضْمَرَة في نَفْسهِ، ولا سلطان لأحدٍ على نِيَّتِهِ؛ وإنما يعلمها ربنا وحده سبحانه وتعالى ومَنْ أذنِ له بمعرفةِ نِيَّتِه من الملائكةِ الكرامِ عليهم سلامُ الله وبركاتُه الذين يكتبون نِيَّات العبدِ؛ فيعامِلُهم رَبَّه وَفْقَ نِيَّتِهِمْ.
ثانياً: أنَّ تفكيرَ الفردِ (بحُكْمِ التَّجْرِبةِ غيرِ الْمُنْخَرِمَةِ في تفكير البشر): لا بُدَّ أنْ تَنْتَهي إما: إلى يقينِ بأنَّ الأمْرَ الْمُفَكَّرَ فيه حقٌّ أو باطلٌ، أو خيرٌ، أو شَرٌّ، أوجميلٌ، أو قبيح؛ فَيَلزَمُ الْمُفَكِّرَ حينئذٍ أنْ يُنْهِيَ تفكيْرَه إلى ما تَحقَّق له أنه اليقنُ؛ فلا مَفَرَّ له من البديلِ الآخَرِ الذي لا ثالِثَ له؛ وهو الالتزامُ بضرورةِ الفكْرِ التي أنهتْ التفكيرَ بأنَّ ذلك حَقٌّ، أو باطِل، أو.. إلخ؛ فإنْ ابْتَغَى أمراً ثالِثاً كأنْ يختارَ أنْ يكوْن الباطِلُ حَقّْاً، أو أنْ يكونَ الحقُّ باطِلاً: فذلك حُرِّيَّةُ سُلُوْكٍ غيرِ مُلْتَزِمٍ؛ وليس هو حُرِّيَّةَ تفكيرٍ؛ لأنَّ حُرِّيَّةَ التفكيرِ انتهت إلى ما هو يقيني؛ وبهذا يكون مَن اِخْتارَ حُرِّيَّةَ السلوكِ غيرِ الْمُلْتَزِمِ: عَبْداً لأهوائه؛ وليس هو حُرَّ التفكيرِ؛ لأنَّ حُرِّيَّةَ التفكيرِ لم تَجْعَلِ الحقَّ باطلاً، أو الباطل حقاً.. إلخ.
ثالثاً: أنْ ينتهي التكفيرُ إلى (رُجْحانٍ) لا إلى (يقينٍ): بأنَّ الْمُفَكَّرَ فيه: حقٌّ، أو باطل، أو خير.. إلخ؛ فههنا يكون الرجحانُ مُكْتَسِباً حُكْمَ اليقين ما ظَلَّ الرُّجحانُ قائماً لم ينْخَرِمْ بِوِجْدان ما هو أرْجَحُ مِنْه؛ لأن الأخْذَ بالْمَرْجوحِ تَحَكُّمٌ، واتِّباعٌ للأهواء، وليس هو حُرِّيَةَ تفكيرٍ؛ ولأنَّ إلغاءَ الرُّجحانِ سَفَهٌ؛ وكلا الأمرين كما أسفلتُ: اِتِّباعٌ للأهوءِ، وليس هو حُرِّيَّةَ تفكير.
رابعاً: أنْ ينتهي التفكيرُ إلى فُقْدَانِ يقينٍ أو رجحانٍ؛ وإنما هو عَدَمُ عِلْم أَلْبَتَّةَ، أو عِلْمٌ باحتمالاتٍ غيرُ مُتَرَجِّحٍ بعضُها على بَعَض؛ فحكمُ هاتين الحالتين التَّوَقُّفُ مع وجودِ الاحتمالِ من غير ترجيح؛ وقد بنيتُ على هذا الأصلِ الحكمَ في الحديثِ الضعيف، وعارضني معارضون بغير علمٍ؛ فَتَعَفَّفْتُ عن الردِّ عليهم بعد أن أَبْرَأتُ ذِمَّتِي بالبيان؛ وذلك الحكمُ يقضي بأن الحديث الضعيف الذي ليس في إسناده المتَّصِلِ كَذَّاب يضع الحديث، أو مُتَعَمِّدُ سَرِقَةَ الأسانيد الموضوعة: ليس له حُكْمٌ غيرُ التَّوَقُّفِ؛ لأنه لم تَقُمْ شواهدُ صِحَّته ولا شواهِدُ بطلانه؛ فهو على احتمالِ أحدِ الأمرين، ولا يُنْسَبُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الْقَطْعِ؛ وإنما يقال بصيغَةِ التَّمْرِيضِ: وَرُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: قال كذا وكذا.
خامساً: أنَّ الأصْلَ في كونِ الله سبحانه وتعالى: أنه لا حُرِيَّةَ لِمَخْلُوْقاتِ الله إلا ما جعله الله وَفْقَ حُرِّيتهم، وإرادةُ الله فوقَ ذلك؛ وبيان هذا الأصلِ: أنَّ كلَّ مَخْلُوْقاتِ اللهِ (وكلُّ مَنْ سِوى الله فهم عبِيدُهُ وَخَلْقُهُ ومُلْكُهُ: ماضٍ فيهم حُكْمُهُ، عَدْلٌ فيهم قَضَاؤه) مُسَيَّرةٌ بأمر الله وإرادته؛ فالشَّمْسُ مُسَيَّرَةٌ بأمْرِ الله لا تَخْرُج مِن مَغْرِبِها إلى أنْ يأذن الله لها بذلك عند قيامِ الساعة؛ وبهذه الحقيقَةِ فلج إبراهيمُ الخليلُ (عليه وعلى نبي الله ورسوله محمد، وعلى جميع إخوانهم من النبيين والمرسلين صلواته وسلامه وبركاته؛ وجعلنا من التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين) عَدُوَّ الله الذي آتاه الله الملك.. قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة/ 258]؛ ولَمْ يكن إبراهيمُ عليه السلام مُقِرّْاً له بأنه يُحْييْ ويميت؛ وإنما أرادَ إخْراسَه عن المجادَلةِ بشيءٍ يراه كلُّ الناس؛ ولهذا بُهِتَ الذي كفر.. وهذا شيئٌ يُسَمُّونَه في عِلْمِ الْجَدَلِ: (التَّنَزُّلُ في الاستدلال)؛ ثِقَةً بأنه قاطِعٌ حُجَّةَ الْمُجادِلِ فيما تنَازَلَ عنه بعد ما بهتَه فيما لم يَتَنَازَلْ عنه، ولا يَحِقُّ للمجادِل أنْ يتنازَل عَن أمرٍ إذا تنازَلَ عنه فَلَجَهُ خَصْمُه؛ وقد تَقَصَّيْتُ ذلك فيما نشرتُه منذ أكثر من عشرين عاماً بهذه الجريدة في مناقشتي لِـ(دِيكارتْ) لما تنازَل عن عِلْمِهِ بأنه يُفكِّرُ، وأنه موجودٌ باحتمالِ أنَّ شيطاناً ضَلَّلَه؛ وإلى لقاءٍ عاجلٍ قريب في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان.