قاسم حول
فيلم غير عادي على الإطلاق، ويختلف عن السينما التقليدية. ليس فيه حوار سوى بضعة كلمات فرضتها الضرورة. لم يكن الفيلم صامتاً بل كان زاخراً بالصوت ويقدم سيمفونية الطبيعة والشخوص الذين يعيشون فيها. قصة الفيلم هي ثلاث شخصيات رئيسة وبضعة أفراد من الشرطة يجردون المنطقة خوفاً من الغرباء على حدودها فيمرون على جزيرة الذرة التي زرعها مزارع من جورجيا،
ويحكي الفيلم عن جزيرة تقع على نهر «إنغوري» الذي يفصل «جورجيا» و«إبخازيا» حيث استقر فلاح عجوز رفقة حفيدته ذات الستة عشر عاماً، وعاشا وعملا معاً، وصارا يزرعا الذرة ويحصدانها. وفيما يعمل الفلاح صامتاً لا يحب الكلام، كانت حفيدته الصغيرة تحمل دميتها، وتعمل معه وتقاوم معه قسوة الطبيعة. ومع قدرة المخرج والممثلين الفائقة في الإبداع والأداء لكن هؤلاء كان بين أيديهم سيناريو محكم البناء. كتب السيناريو مخرج الفيلم الجورجي «جورج أوفاتشفيلي» وبمشاركة في كتابة السيناريو الجورجي، السينارست «رويلوف جان مينيبو». لعب دور الفلاح العجوز الممثل «إلياس سالامان» ولعبت دور حفيدته «ماريام بوتوريشفيلي» فيما لعب دور الجندي الهارب «تامير ليفينت» هذه هي شخصيات الفيلم الرئيسة الذي لم نسمع منه سوى عدد قليل من الكلمات الحوارية التي اقتضتها الضرورة.
بدأ الفيلم بفلاح عجوز ينظّف جزيرة صغيرة من الشوائب والطفيليات والطحالب ويشرع ببناء منزل من خشب الأشجار التي كان ينقلها من الغابة في زورقه عبر نهر «إنغوري». كنا نراه وحيداً، ولم تكن حفيدته قد وصلت بعد للجزيرة. الجزيرة صغيرة جداً وسط نهر واسع. لا أحد يعرف وليس من الضروري أن نعرف الأسباب التي حدت بهذا الفلاح العجوز أن يعزل نفسه عن العالم وعن المدينة. ولا الأسباب التي دعته لأن يأتي بحفيدته الصغيرة كي تعيش معه وحيدة، وهم لم يشاهدوا سوى زورق دورية شرطة الحدود يبحثون عن غرباء قد يتسللون عبر غابات الحدود ونهرها لأسباب تتعلق بالمشكلات القائمة بين البلدان. وفجأة وخلال مسار بناء البيت وقبل اكتماله يعثر الفلاح العجوز بين شتلات الذرة على شخص يبدو من المقاومة تمكن من الوصول إلى الجزيرة الصغيرة فانهار من شدة النزف بسبب طلق أصابه في أحشائه، فسحبه لكي يغسل النزف ويضمد جراحه ويخفيه حتى عن أعين شرطة الحدود وأيضاً دون أن يعرض لنا الفيلم أسباب إصابته ولم يتعرض لا من قريب ولا من بعيد ولا حتى بالأيحاء عن أسباب المقاومة وأسباب الهروب عبر الحدود، لأن الفيلم غير معني بالجانب السياسي. هي حالة إنسانية ضمن حبكة القصة والسيناريو.
يمكننا أن نتصور نجاح ذلك الفلاح العجوز في استكمال البيت الخشبي بصالته وبغرف نومه ومرافقه هو يعاند في الصمود وفي دق المسامير وفي بذل الجهد الذي يستحيل على الفرد (وفي ذلك السن) أن يحققه. إنه جهد لشركات بناء عملاقة، استطاع أن ينجزه بنفسه. الفيلم هو مواجهة الطبيعة في البناء وفي العيش عبر زرع شتلات الذرة وهي تعلو بأغصانها الكثيفة. هنا ينبغي أن نعرف بأن محصول الذرة تعيش عليه شعوب كثيرة فالناس في مناطق نائية من جنوب أفريقيا والخدم السود عند العائلات البيضاء ضمن فترة التمايز العنصري يجلبون معهم طوال اليوم ثلاث رؤوس من الذرة لثلاث وجبات!
عندما ينجح الفلاح العجوز في معالجة الشخص الذي ينزف دما، ويعتني به تكون حفيدته قد رمت دميتها التي جلبتها معها وركنتها في غرفتها كذكرى عن فترة الطفولة حين أحست بالنضج في جسدها وهي في تلك الجزيرة النائية. وعندما يتماثل الشخص الغريب للشفاء النسبي ترنو عيناه نحو الصبية التي ودعت مرحلة الطفولة لتدخل في عمر الصبا، لكن ذلك لن يروق لجدها العجوز فأعادها إلى المدينة وعاد وحده في الزورق إلى جزيرته.
ترى كم سيصمد ذلك العجوز متوحداً في عالم لا تتجاوز مساحته الألف متر أو أكثر بقليل حين تقسو الطبيعة بعاصفة هوجاء ممطرة نفذها المخرج وتقنيو المؤثرات الحية بقدرة عبقرية هائلة، فتماوجت مياه النهر واندفعت نحو الجزيرة والبيت الخشبي الوحيد في عالمها، فتنهار أشجار غابات الحدود ويموت محصول الذرة تحت هدير العواصف فيختبئ الفلاح العجوز في منزله الذي سعى لأن يكون مكاناً متيناً، فينهار مرة واحدة على ساكنه الوحيد (الفلاح العجوز)، ويموت. وحين تهدأ العاصفة وتركن الطبيعة للسكون، نرى فلاحاً عجوزاً آخر ينظف الأرض من الشوائب والطحالب والطفيليات، كي تبدأ الدورة الدرامية (دورة الحياة وقانونها) من جديد .. وهكذا هي الحياة! ناس تروح وناس تجيء ومنذ بدء الخليقة وحتى الآن والناس في صراع مع الطبيعة!
ما نستنتجه من هذه التجربة السينمائية، أنها بعيدة عن نفخ ميزانيات الأفلام بالمشاهد الكبيرة والكومبارس والملابس التاريخية وعدد من نجوم السينما الذين يرهقون الميزانيات. فيلم بثلاثة ممثلين رئيسيين وأربعة جنود كممثلين ثانويين وكل الفيلم في موقع واحد هو «جزيرة الذرة» تمكن المخرج من أن يحبس أنفاسنا طوال ساعة وإحدى وأربعين دقيقة ضمن كاميرا متطورة وعين مصور بارع، وإنارة مدير تصوير يرسم اللقطات بالضوء، فحقق سينما بميزانية متواضعة قوامها موقع واحد للتصوير وثلاثة ممثلين وأربعة ممثلين لأدوار ثانية، فيصبح الفيلم جديراً بلقب الأفلام التي تحقق القياسية في استخدام لغة التعبير السينمائية.
فيلم «جزيرة الذرة» من الأفلام التي تنطبع في الذاكرة ولا يمكن نسيانها في تاريخ الفيلم الروائي المحكم البناء! ويمكن أن نطلق عليه بحق «سينما المبدعين»
عرض الفيلم ضمن مهرجان سينما المؤلف في العاصمة المغربية - الرباط (المسابقة الرسمية – 29 يناير حتى الخامس من فبراير 2016 ) وهو من إنتاج عام 2014.