د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تأخذ الدول المستهلكة مستقبل النفط على محمل الجد كما الدول المنتجة، حيث سادت في فترة ما قبل 2008 نظرية ذروة النفط أشعلتها أسعار النفط الجنونية في عام 2008 التي قاربت في الوصول نحو 150 دولاراً للبرميل حيث تتمحور نظرية دعاة ذروة النفط حول إمدادات النفط في باطن الأرض بأنها محدودة، خصوصاً في فترة تجاوز فيها الطلب العرض مدفوعاً بالصعود الذي لا يمكن إيقافه على ما يبدو في الصين إلى حد غير معهود، الذي تحول إلى عقيدة بالنسبة إلى كثيرين بأن عرض النفط بلغ ذروته، وأن الأسعار لا مجال أمامها سوى أن ترتفع.
ما يحدث الآن العكس تماماً، ليس فقط في تبديد نظرية ذروة النفط، بل هناك اتجاه يائس ويعيش العالم فترة إغماء بأن العالم يمر بمرحلة ما بعد النفط، خصوصاً بعدما وصلت الأسعار إلى نحو 27 دولاراً للبرميل، حيث إن الأسعار المرتفعة من شأنها أن تستثمر مزيداً من الإمدادات، وعملت التكنولوجيا الجديدة على استغلال الزيت الصخري، وتدفقت الاستثمارات إلى البدائل، وتراجعت الأسعار إلى 80 في المائة من المستويات التي وصلت إليها في عام 2008.
عاش العالم نظرية اللعبة عندما اعتقد أن ثورة التكنولوجيا نجحت في الفصل بين استخدام الطاقة والنمو الاقتصادي من جانب، ومن جانب آخر لم تعد الشركات النفطية الكبرى المسيطرة كما كانت عليه من قبل، تم تدعيم هذه النظرية بأن الطلب الصيني لم يكون موثوقاً في الاعتماد عليه، بل إن اتفاقيات المناخ المبرمة في باريس المدعومة من التكنولوجيا ستلعب دوراً في تحقيق هذه النظرية.
بل وصلت نظرية اللعبة التي حلت محل نظرية ذروة الطلب إلى تشكيكها في فكرة الطلب إلى ما لا نهاية، وصلت إلى حد بعيد جداً عندما اعتبرت أن الدول المنتجة للبترول تمتلك أصولاً لا قيمة لها، بل اعتبرتها عالقة تحت الأرض، وكما هناك داعش على الأرض شوهت مفاهيم دينية، كذلك هناك متبني نظرية اللعبة دواعش شوهوا مفاهيم اقتصادية، وكما يتم توظيف داعش الجهادية، فإنه كذلك يتم توظيف داعش الاقتصادية لتحقيق أجندة جيوسياسية، في أن ينضم العرض المتزايد في الانضمام للطلب الآخذ في الانخفاض، حيث تعتبره ورقة رابحة بالنسبة لمستوردي النفط للانتقام من الدول المنتجة التي كدست أموالاً باهظة في الفترة الماضية تعتقد أنه كان على حساب الدول المستهلكة، وحان وقت استرداد جزء من تلك الأموال.
بينما النظرية الجيوسياسية ترى أن الولايات المتحدة وصلت إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي في إنتاج النفط، ما يعني أنها غيَّرت إستراتيجيتها التي كانت تركز على مناطق الإنتاج خصوصاً في منطقة الخليج والشرق الأوسط، لكن النفط الصخري سيضع حداً أعلى لأسعار النفط لكنها لا تزيد كثيراً عن مستواها الحالي.
هذه النظرية لم تضع في اعتبارها أن الولايات المتحدة تضع قيوداً على التكسير الهيدروليكي في الولايات المتحدة بسبب الأضرار التي نتجت عن ثورة الزيت الصخري، وجدت الفرصة مواتية في انخفاض الأسعار، بل ساهمت في تركها منخفضة عندما ساهمت في مراكمة المخزونات، حيث تصل مخزونات الولايات المتحدة في نهاية أبريل 2016 عند 538.6 مليون برميل، هذا يمثل أعلى كمية من النفط الخام في خزانات تجارية منذ عقود بزيادة 2.1 مليون برميل خلال أسبوع، في حين أن الزيادة جاءت أقل من تقديرات المعهد الأمريكي للبترول التي بلغت 3.1 مليون برميل، بينما يصل إنتاج الولايات المتحدة إلى 8.95 برميل يومياً متراجعاً من حاجز 9 ملايين برميل لتحقيق عدد من الأهداف الجيوسياسية منها تخفيض الآبار المنتجة للزيت الصخري في الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت تساهم تلك الإستراتيجية في الضغط على اقتصادات دول مثل روسيا وإيران، ولكبح جماح صعود دول الخليج.
صدمة الأسعار الهابطة أحيت كثيراً من النظريات، بل تبنتها كثير من الجهات واعتقدت بأن الأسعار ستظل هابطة إلى الأبد، وأن منظمة أوبك أيضاً انتهت بلا رجعة، ونسيت أن السوق الذي كانت تدعو إلى تركه قبل أزمة 2008 دون أي تدخل تسبب في أزمة مالية بأنه هو قادر في نفس الوقت على إعادة التوازن إلى السوق النفطي، خصوصاً بعدما تعثرت مبادرة تجميد الإنتاج التي عقدت في الدوحة في أبريل 2016 بعدما رفضت السعودية القبول بتلك الإستراتيجية دون انضمام إيران وأصرت على ترك الأسعار للسوق أغضب الشركات الأمريكية وتبددت آمالها في استئناف الإنتاج، وما زالت روسيا ترى أن ملف التجميد لم يغلق، وجازبروم صرحت هي الأخرى بأن عدم تثبيت الإنتاج قد يقود إلى نتائج غير متوقعة، والمبادرة الأوربية للطاقة كذلك صرحت بأن السوق تواجه مأزقاً كبيراً بعد تعثر فرص العمل الجماعي.
ما زالت أوبك باقية رغم الذين يراهنون على تفككها بقيادة السعودية نتيجة تمسكها بالدفاع عن الحصص السوقية في مواجهة المنافسين ذوي التكلفة المرتفعة، على مزيد من الانخفاض في الأسعار، ويتضرر إنتاج الدول غير الأعضاء في أوبك من هبوط الأسعار، حيث أرجأت شركات أو ألغت بعض مشاريعها في أنحاء العالم، حيث توقف في الولايات المتحدة بمفردها 342 حفاراً خلال عام واحد انخفاضاً من 660 حفاراً كانت قيد التشغيل قبل عام، حيث خفضت شركات الحفر في عام 2015 نحو 963 حفاراً، وهو أكبر انخفاض سنوي منذ عام 1988 وسط أكبر هبوط في أسعار الخام منذ عقود.
حيث تتوقع منظمة أوبك انخفاض الإمدادات من خارج أوبك بواقع 740 ألف برميل يومياً في 2016 بقيادة الولايات المتحدة التي ساهمت في وقف مزيد من انهيار الأسعار، رغم أنه أقل من المعروض الذي يمثل فائضاً بنحو 950 ألف برميل يومياً في المتوسط عام 2016 إذا ظلت المنظمة تضخ بمعدلات أبريل 2016، لن يتم عكس ثورة النفط الصخري، لكن في الواقع التكنولوجيا مستمرة في المضي قدماً، لكن لكل ثورة تحتاج إلى أن تأتي بعدها فترة من تعزيز وتصويب، وهذا ما لا يختلف عليه أحد.
السوق بدأت تظهر أول ملامح التصحيح بعد عامين من انهيار الأسعار وتوقع غولدمان ساكس أن يحدث التصحيح في الربع الثالث من عام 2016، لكنه حدث في الربع الثاني نتيجة إصرار السعودية على التمسك بحصص الإنتاج التي تقود أوبك رغم معارضة بعض الأعضاء استطاعت أن تحول السوق من المتشبع بطاقة التخزين لكنها لم تستهدف مستوى محدداً للأسعار الذي بات بلا فائدة.
ضعف السوق العالمية يعكس تغيرات هيكلية أكثر من أنه اتجاه مؤقت رغم ذلك يتجه السوق إلى تسجيل عجز في وقت مبكر كثيراً عما توقعه العالم، فبعدما كان الفائض 1.4 مليون برميل في الربع الأول من عام 2016 ربما يتجه إلى عجز في الربع الثالث بفضل تحسن الطلب، والانخفاض بسبب تعطل إنتاج عدد من الدول خارج أوبك التي وصلت إلى نحو 3.75 مليون برميل يوميا التي يمكن أن تتخلص من تخمة المعروض التي أدت إلى هبوط الأسعار نحو 70 في المائة بين 2014 وأوائل 2016.
السوق شهدت تغيرات هيكلية وهو ما يتضح في أن السوق تصبح تنافسية أكثر من أن تكون احتكارية، ولكن أوبك لم تمت بفعل التحول المهم في الفكر السعودي بشأن النفط كما يعتقد البعض، بل على العكس دخلت أوبك مرحلة أكثر أهمية التي لن تقتصر على النفط بل لكل موارد الطاقة، خصوصاً بعد تأكيد السعودية ثبات سياستها النفطية وتأمين الإمدادات، بينما البعض يعتقد أن أرامكو ستكون بديلاً لأوبك في سوق النفط بعد الإعلان عن جزء للاكتتاب العام من الشركة.
بعد تراجع اهتمام الأسواق بتجميد الإنتاج، ونمو الأسعار يسهل مهمة أوبك وزيادة أهميتها، خصوصاً بعدما عادت إندونيسيا إلى عضوية المنظمة في ديسمبر 2015، ولن تتدخل دول الأوبك في اجتماعها في فيينا في دورته 169 في السوق، بل حذرت أوبك من تمييز دولي ضد النفط، واعتبرت أوبك أن تطبيق اتفاقية تغير المناخ في شهر أبريل 2016 تحد جديد يواجه منتجي النفط، بل هي ترى أنه مطلوب سياسات مبتكرة للطاقة بعد التوقيع على اتفاق باريس لمكافحة التغير المناخي، وأكدت أوبك على أن الطاقة المتجددة ليست بديلاً ودورها تكميلي، خصوصاً أن الوقود الأحفوري يمثل أكثر من ثلاثة أرباع مزيج الطاقة بحلول عام 2040 في مقابل نسبة لا تتجاوز 22 في المائة للوقود غير الأحفوري في منظومة الطاقة الدولية، ومراكز ثقل الإنتاج النفطي العالمي تتركز في دول الخليج، وسيكون الخليج مصدراً رئيسياً للطاقة الشمسية مثلما هو للطاقة الهيدروكربونية.
وحذرت منظمة أوبك من انخفاض الاستثمارات في إنتاج النفط بنحو 20 إلى 30 في المائة نتيجة تذبذب أسعار النفط وانخفاضها بأن أدى إلى تراجع الطاقة التكريرية الأوربية إلى مليوني برميل يومياً، بل إن عودة الأسعار إلى نطاق سعري مناسب يسهل الإنفاق على التكنولوجيا المتطورة.
أوبك بقيادة السعودية أرسلت رسالة للعالم بأن أوبك تتماشى مع المرحلة الجديدة التي تتطلب إستراتيجية واقعية وطويلة المدى لتطوير صناعة تكرير النفط والوقود في كل دول العالم سواء المنتجة أو المستهلكة وتطوير خطط أعمال الشركات والمستثمرين لتلبية احتياجات الطلب على المدى البعيد، وفي الاجتماع الجديد في فيينا أول اجتماع بعد إعلان السعودية رؤية عام 2030 ستحافظ على العمل الجماعي للمنظمة.
وأول اجتماع للمنظمة يأتي بعد تعيين المهندس خالد الفالح وزيراً للطاقة والصناعة والثروة المعدنية، ومن هذا المنطلق ستكون المناقشات أعمق وأكثر جدية من الاجتماعات السابقة وأن تكون هناك رغبة في تحقيق التعاون بين المنتجين بدلاً من المنافسة بين الأعضاء، ما يعني أن دور المنظمة يبقى دورها فاعلاً في الحفاظ على وحدتها تجاه قضايا الصناعة.
فشل الرهان على نهاية أوبك خصوصاً بعد فشل اجتماع الدوحة حول تثبيت الإنتاج، كبار المنتجين قادرون على تثبيت الإنتاج رغم تضارب مصالحهم، لكن السعودية ترفض إذا لم تنضم إيران إلى الاتفاق كحجة من أجل الضغط على روسيا في وقف النزيف في سوريا من جانب، خصوصاً أن روسيا تواجه أسوأ ركود منذ الأزمة المالية في عام 2008، حيث تلقت روسيا ضربة مزدوجة نتيجة العقوبات الغربية وانخفاض أسعار النفط من غير المؤكد ما إذا كانت روسيا قادرة على الحفاظ على الإنتاج في المستويات الحالية على المدى المتوسط إلى الطويل وهي أولوية أساسية لحكومة الرئيس فلاديمير بوتين التي كانت تعتمد على النفط والغاز لتحقيق نحو نصف إيراداتها، خصوصاً أن الاقتصاد الروسي يعاني من إحجام المستثمرين على الاستثمار في اقتصاد تغيب عنه الشفافية، خصوصاً أن التدهور الملائي والديون يعصفان بالقطاع المصرفي.
فيما ترى السعودية من الأفضل ترك الأسعار للسوق، بسبب امتلاك دول أوبك مميزات نسبية تتفوق على الدول المنتجة من خارج أوبك، تتحدد في الاحتياطيات، وفي التكلفة، وفي الموقع الذي يحقق لها تمسكها بالسوق، خصوصاً مع توجه آسيا لنفط الشرق الأوسط مع تراجع معروضات أمريكا اللاتينية، لأن انخفاض الأسعار رفع مستويات الكفاءة وأخرج الشركات الضعيفة من السوق، ولن ترضخ السعودية للضغوط الخارجية حول الجدل الدائر فيما يخص القرار السعودي وتأرجحه بين السياسة والاقتصاد وسط تماسك قوي لأسعار النفط.
ولأول مرة نجد أن الولايات المتحدة تحذر من بقاء الأسعار حول 40 دولاراً لعامين سيقود إلى ارتفاعها إلى 100 دولار للبرميل حيث إن 20 في المائة من المنتجين في الولايات المتحدة على وشك الإفلاس، والسعر الحرج عند 55 دولاراً للبرميل، ما يعني أن الدول المنتجة في منظمة أوبك وخارجها حريصون على استقرار الأسعار.
يبدو أن هناك توافقاً بين الدول المنتجة والمستهلكة حول سعر عند 100 دولار للبرميل كهدف للوصول إليه من أجل الإبقاء على صناعة الطاقة الأمريكية التي دخلت في غرفة الإنعاش، ولإضافة مليون برميل يومياً من الإمدادات في كل عام تحتاج الصناعة إلى سعر فوق 80 دولاراً للبرميل للتحرر من الديون، خصوصاً بعد انخفاض النفقات الرأسمالية في القطاع النفطي نحو 30 في المائة لعام 2016 بحسب إكسون موبيل.
رغم أن هناك تبايناً حول نجاح التوافق على التجميد ومدى تأثيره على الأسعار، ما يعني أن هناك تحولات نفطية انتقلت من تثبيت الإنتاج إلى تثبيت الأسعار حيث صرح مندوب إندونيسيا في منظمة أوبك ويدهياوان براويرا تماجدا بأن أسعار النفط عند 45 دولاراً للبرميل ليس سيئاً للغاية لكن سيكون مثالياً عندما يتراوح بين 50 إلى 60 دولاراً ولكن ستظل الأسعار رخيصة نسبياً.