د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
ضمن فعاليات اللقاء العلمي الطلابي السابع في جامعة أم القرى، أثناء حضوري إحدى الفعاليات في كلية العلوم الاجتماعية، استوقفتني إحدى المشاركات مقدَّمة من قِبل طالبين تحت عنوان (يا الله سوا). كانت فكرة إبداعية متميزة في صناعة مجال المشاريع الصغيرة، تتضمن فكرتها مشروعًا يُدار عبر النت لتشجيع السفر عبر المدن في السعودية، بعد الحصول على
ترخيص من وزارة النقل، يمكن أن يقلل تكاليف النقل، وهو بديل عن ضيق السعة الاستيعابية للمقاعد في الخطوط الجوية، وخصوصًا بين جدة والرياض، وفي الوقت نفسه يقلل من ارتفاع التكاليف، وإيجاد فرص عمل للشباب والشابات، يمكن أن تدار من المنزل عبر شبكة الإنترنت.
رغم اعتراض البعض على تلك الفكرة، وأن البعض اعتبرها فكرة فشلت في دول أخرى، بجانب أن هناك قيودًا اجتماعية محلية، تعيق تطبيق مثل تلك الفكرة، لكن يبقى عرض الأفكار سلسلة لأفكار أخرى، كأن تتحول الفكرة إلى فك الاختناقات المرورية وقت الذروة، ريثما تتوافر وسائل نقل جماعية متنوعة، سواء للطلاب والموظفين لتقليل عدد السيارات المتكدسة في الشوارع. وسبق أن اقترح كاتب هذا المقال فكرة وقف الإشارات واستبدالها بالالتفاف والدوران في جريدة المدينة قبل أكثر من نحو 20 عامًا لكن لم تطبَّق الفكرة إلا حديثا في طريق الملك عبد العزيز في جدة.
بحسب الإحصاءات الرسمية المنشورة لعام 2015، فإن قطاع النقل يستهلك نحو 23 في المائة من إجمالي الطاقة في السعودية؛ إذ يستهلك أسطول المركبات الذي يصل إلى أكثر من 12 مليون مركبة يوميًّا من البنزين والديزل نحو 811 ألف برميل، بينما يتوقع أن يصل عدد المركبات عام 2030 نحو 26 مليون مركبة، وارتفاع معدل استهلاكها اليومي لنحو 1860 ألف برميل يوميًّا. بالطبع هناك خطة لإنشاء 21 ألف كيلومتر من الخطوط الحديدية في السعودية حتى 2040، ومشاريع أخرى مثل المترو وغيره داخل المدن، لكنها بحاجة إلى زمن من أجل وقف نزيف استهلاك البنزين، ورفع كفاءة استهلاك المورد الأساسي للدولة.
عندما وجد معهد التخيل والبراعة الذي ترأسه الدكتورة السندي حواجز في سبيل المبدعين، التي يتعذر معها على الكثير ترجمة أفكارهم إلى مشاريع ريادية، وتشمل هذه الحواجز غياب الموارد والمصادر والدعم، اتجهت مدينة الملك عبد العزيز إلى التغلب على تلك الحواجز والعقبات لدعم بحوث الجامعات والمراكز البحثية، التي تركز على البحوث الصناعية والتحول إلى الاقتصاد المعرفي، وهي ترفض قبول بحث من دون وجود شريك تجاري؛ إذ تجاوز عدد المشاريع البحثية المنشورة في السعودية خلال عام 2015 حاجز 16 ألف بحث، مقارنة بـ6 آلاف بحث محكم عام 2010.
ودعمت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية من 10 مشاريع إلى 390 مشروعًا في عام 2015؛ إذ تُعتبر تكنولوجيا الأفق البعيد قطاعًا جديرًا باهتمام المستثمرين في تكنولوجيا النانو، وهندسة الروبوتات، والبحث الجينومي، والذكاء الاصطناعي، والاتصال على أوسع نطاق.. وهي قطاعات تَعِدُ بأرباح وفيرة، وهي قنوات جديدة لتوظيف الأموال وتجنب خطر الفقاعات.
الجامعات بحاجة إلى أن تتحول إلى جامعات تخصصية، فمثلاً يوجد في ولاية كاليفورنيا جامعتان، لكل جامعة أكثر من عشرة فروع، ومع ذلك لم تتأثر مخرجاتها، بل على العكس حصل أكثر من فرع على جوائز عالمية، كجوائز نوبل، بل صنفت بعض فروعها من ضمن أفضل عشر جامعات، فيما صنفت فروع أخرى ضمن أفضل 100 جامعة، وعدد الطلاب في الجامعتين نحو 750 ألف طالب، جامعة عدد طلابها نصف مليون، والجامعة الأخرى 250 ألف طالب.
إذ إنه لم تعد كل التخصصات لها الوزن نفسه في سوق العمل، التي يتطلب تقسيمها بناء على حاجة سوق العمل، وانعكاس التخصص على تنمية البلد بشكل عام، ومعدل الطالب، وخصوصًا في زمن انخفاض أسعار النفط لترشيد الإنفاق ورفع كفاءتها والتوجه نحو التعليم الفني؛ فأكثر من 75 في المائة من البالغين في بريطانيا ليست لديهم شهادة جامعية، وإنما لديهم شهادات مهنية، تخدم سوق العمل، وهي التي تصنع الطفرات، وتجلب الثراء، بينما الجامعات التقليدية تخرج الكوادر البيروقراطية التي تسير أمور العمل ولا تصنعه؛ فكل الدول المتقدمة لم تصبح دولاً متقدمة إلا من خلال معاهدها وكلياتها الفنية؛ فهي تلعب دورًا كبيرًا في الإنتاجية والنمو المستدام، وكل الدول النامية لم تصبح دولاً متأخرة إلا من خلال الجامعات التقليدية.
وكشفت دراسة أن 50 في المائة من المتخرجين من الجامعات السعودية لا يعملون بتخصصاتهم؛ ما يعني أن التخصصات ضعيفة الأفق، وسيجاهدون كثيرًا لربط تخصصاتهم بالعالم الخارجي، وأن 48 في المائة من خريجي وخريجات البكالوريوس من 3 تخصصات من برنامج الدراسات الإنسانية، ومن برنامج الأعمال التجارية، ومن برنامج تخصص الدراسات الإسلامية.
فاستراتيجية أرامكو تعتمد على أربعة عناصر، هي: استقطاب المواهب، تطوير الكفاءات والمحافظة عليها، إضافة إلى كفاءة العمل ضمن المؤسسة. ونجحت عميدة الدراسات الجامعية للطالبات في جامعة الدمام في تمكين خريجات طالبات الهندسة والطب والتمريض والحاسب الآلي وإدارة الأعمال المنتظر تخرجهن من جامعة الدمام من تعيينهن مباشرة في القطاعين الحكومي أو الخاص، وأن خريجات كلية الآداب والعلوم أصبح هناك عليهن دور بعد التعديلات الأخيرة في البرامج التعليمية والتطويرية.
كما وقعت أرامكو مع 6 جهات سعودية وعالمية اتفاقًا لتأسيس الأكاديمية الوطنية للطاقة؛ إذ ستوفر الأكاديمية برامج تدريبية تخصصية في مجالات الكهرباء والآلات الدقيقة، والميكانيكا، والطاقة المتجددة، والطاقة النووية، وكفاءة الطاقة، إضافة إلى مجالات التشغيل والتصنيع والإنتاج؛ إذ تطمح أرامكو إلى أن تصبح الأكاديمية الوطنية للطاقة الأولى من نوعها في المنطقة، على أن تقدم برامج تدريب مبتكرة ومستحدثة للقطاعات الناشئة، كشبكات الاتصالات الذكية وكفاءة الطاقة ومصادر الطاقة المتجددة والمستدامة، ومعامل عالمية المستوى، ومرافق تدريب متطورة ومحاكية لواقع الأعمال الحقيقي، ومناهج تدريب متعددة التخصصات والأنماط، ووسائل تدريس وتدريب مبتكر، ومركز تطبيقي للبحوث والتطوير، ونموذج للتدريب الموجَّه من قبل الصناعة.. أي حقبة جديدة للموارد مدفوعة بالتكنولوجيا.
فمثلاً، يصف بنك جولدمان ساكس مادة الليثوم بأنها البنزين الجديد المحتمل في غد الصناعة، وإنتاج مسحوق التيتانيوم المستخدم في الطباعة ثلاثية الأبعاد للقطع الطبية والصناعية، والطب الرقمي يقود الانقلاب على مفاهيم الطب التقليدي. والنقطة الشاذة هي مرحلة تعمل عندها التكنولوجيات الجديدة على تطوير نفسها، بدلاً من تطوير البشر لتكنولوجيات جديدة، وذلك بمعدل يفوق قدراتنا على الاستيعاب؛ فالتكنولوجيا الهجينة قفزة نحو المستقبل؛ ما يعني أن التعليم بات أكثر أهمية في عالم مسطح سريع؛ لذلك من المهم أن نحول مجهود الطلاب إلى مصدر إلهام.
لذلك تركز الصين على السلاحف البحرية لتطوير قطاع التكنولوجيا الحيوية على أيدي الطلبة المبتعثين العائدين من الولايات المتحدة؛ فغباء الفرد ميئوس منه، لكن الغباء المؤسسي هو أكثر بكثير في مقاومة التغيير.
كما أعلنت دولة الإمارات سياستها العليا في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار، التي تضمنت إطلاق 100 مبادرة باستثمارات إجمالية تصل إلى 300 مليار درهم (81.6 مليار دولار)، تتضمن مضاعفة الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة من الناتج القومي لثلاثة أضعاف بحلول 2021، وإحداث تحوُّل حقيقي في الاقتصاد الوطني، وزيادة نسبة عاملي المعرفة على 40 في المائة، تشمل إنشاء مراكز أبحاث في جامعات الدولة، وإنشاء مكاتب نقل التكنولوجيا في جميع جامعات الدولة لتسهيل نقل المعرفة المتقدمة ودعم أبحاث الفضاء وصناعات الطيران المتخصصة ومجموعة حوافز استثمارية وتشريعية لاستقطاب الصناعات الدوائية العالمية.
الوقف التعليمي سبق عربي وتفوق غربي؛ إذ تبلغ أملاك جامعة هارفارد الأمريكية الوقفية نحو 36 مليار دولار، حتى فاق عدد أوقافها 11 ألف وقف حاليًا، وتتفوق بذلك على موازنات بعض الدول العربية المعلنة عام 2015 مثل تونس (15.96 مليار دولار)، الأردن (11.42 مليار دولار)، السودان (10.13 مليار دولار)؛ إذ إن 90 في المائة من الجامعات الغربية تعتمد بشكل جزئي أو كلي على أموال الوقف؛ ففي جامعة كيوتو اليابانية يصل وقف الجامعة إلى 2.1 مليار دولار، بينما يصل وقف الجامعات الكندية إلى 5 مليارات دولار، ويتخطى الوقف في 10 جامعات بريطانية نحو 30 مليار دولار، بينما يصل حجم الوقف في مؤسسات التعليم العالي الأمريكية إلى أكثر من 119 مليار دولار، ويغطي العائد من الأوقاف في مجال التعليم بها ما يقارب ثلث نفقات تشغيل الجامعة.
إذ إن الأوقاف مصادر تمويلية خاصة بالجامعات، سواء تم تنميتها داخليًّا، أو من خلال هبات من رجال الأعمال والأغنياء والخريجين السابقين، وهو أسلوب تمويلي، يضمن لهذه الجامعات الاستمرار والإنتاجية والإبداع، وتوجيه مزيد من الأموال للبحث العلمي والتكنولوجيا وصيانة المباني وتوفير الأجهزة الخاصة بها لتحسين جودة المستوى التعليمي المقدم، وتوفير أجور أفضل للمعلمين لتحفيزهم على الإبداع والعمل بشكل أفضل، وكذلك لدعم الطلبة في بعض الحالات بتقليل المصروفات عليهم.
أغلب الجامعات الغربية ما زالت منذ قرون على دعم الوقف التعليمي، حتى تفوقت وأصبحت أغلبها المكون الرئيسي لأفضل 500 جامعة على مستوى العالم، وهكذا ضمنت الاستمرار والاستقرار المالي بشكل عملي وبمخاطر منخفضة جدًا، بينما هي قليلة في العالم العربي، من ضمنها جامعة الملك سعود التي تمتلك أوقافًا في شكل مجمعات صناعية، وفنادق استثمارية، بمشاركة من شركات القطاع الخاص.
تهدف الجامعة إلى أن تكون بيئة تعليمية وبحثية متكاملة لاكتساب ونشر المعرفة لصالح البشرية، ومن أجل عالم أفضل، من خلال موقفها الأخلاقي والمناهج الدراسية والأنشطة التي تتميز بتكافؤ الفرص، وإتاحتها من خلال الدراسة، إلى جانب توفير بيئة تعليمية وثقافية، توفر الحوارات النقدية واللقاءات الوطنية والدولية التي تهتم بالمعرفة والثقافة، وكذلك المساهمة في إيجاد حلول مستدامة للتحديات التي تواجه المجتمع من أجل توثيق روابط التعاون والمشاركة في المجتمعات المحيطة. وهناك جامعات عريقة تحافظ على سمعتها، مثل جامعة أوبسالا في مدينة أوبسالا السويدية التي أُنشئت قبل خمسة قرون في عام 1477 ميلاديًّا.
ومن أبرز الجامعات جامعة هارفارد التي أُنشئت قبل 378 عامًا، وظل خبراء الجامعة في اقتصاد وسياسات الصحة ينصحون الرؤساء لسنوات بشأن كيفية تقديم المزايا الصحية للأمة بتكلفة معقولة، وسن قانون الرعاية الصحية ذات التكلفة المقبولة الذي دفعت إدارة أوباما باتجاهه، ودافع عنه الكثير من أساتذة هارفارد، رغم أن هناك تيارًا معارضًا ومشككًا في توصيات الخبراء، يكشف التوتر داخل الجامعة، لكن هذا هو دور الجامعة التي لم يكتفِ بتخريج الطلاب، بل تعتبر مصدر التحول والتغيير في المجتمع.