أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: وقفاتي حَوْلَ ما مَرَّ مِن كلام (جونْ لُوْكْ) في السَّبْتِيَّةِ السابِقَةِ كالتالي:
الوقفةُ الأُوْلَى: أنَّ ما يَكْتَسِبُهُ الإنسانُ من الحسِّ الظاهِرِ (أي الْـحِسِّ مِن الآفاقِ) عن الأصْفَرِ والأبيضِ والحارِّ.. إلخ: لا يَتَوقَّفُ عند هذا الْـحِسِّ؛
بل يكتسِبُ الإنسانُ مِن العقلِ غيرَ هُوِيَّةِ الْـمَحْسُوسِ مُفَارَقَتَهُ الْـهُوِياتِ الأُخْرى، وعلاقَـتَه بها أيضاً من أوْجُهِ الْـمُشَابَهَةِ والعموم والخصوص.. ويكْتَسِبُ أيضاً التَّخَيُّلَ لِـهُوُياتٍ أخرى عَرَفها بالْـمُشابَهَةِ لِهُوِّياتٍ أدْرَكَها بِحِسِّه؛ لِـيُوَصِّلَها إلى غيرِه مِـمَّنْ لَـمْ يُدْرِكْها بِحِسِّهِ المباشر كتَخَيُّلُهِ لَوْنَ شيءٍ أَصْفَرَ لَـمْ يُشَاهِدْهُ؛ وَهْوَ مثلاً لَوْنُ حِذاءٍ صُنِعَ في نجدٍ لا يدري: أهو أَصْفَرُ فاقِعٌ، أو أَصْفَرُ خَفِيف، أو أَصْفَرُ قاتِمٌ كالذَّهبِ الذي يَميل إلى الأحْمَرِ؛ ولهذا يُوْصَفُ الجُنَيهُ بالأحْمَر؛ أو هو أَصْفَرُ خالِصُ اللونِ بغيرِ مُخالطٍ كالصِّفْرِ؛ فَيُشَبِّهُ لَه مَنْ رَأَى تلك الحذاءَ أوْ صَنَعَها لونَ الحذاءِ تَخَيُّلاً بلونِ شيءٍ عَرَفَهُ الطَّرفانِ بالحسِّ المباشر مِثْلِ لَوْنِ (الْـكُرْكُمِ)؛ ولكنه يَسْتَثْني بقوله: (إلا أنها أَخَفُّ صُفْرَةً من الكركم؛ بل هي صُفْرَة تكادُ تَصِلُ إلى البياض)؛ ويقول عن حِذاءٍ أُخْرَى: (لو لَـمْ يَكُنْ الْكُرْكُمُ في مُـنْتَهَى الصُّفْرَة بلونه القاتم: لكانتْ الحذاءُ أشَدَّ صُفْرَة).
قال أبو عبدالرحمن: وهناك مُنْتَهى بلوغِ الصِّفَةِ غايتَها بما لا يَقْبَلُ سلباً ولا إضافَةً مِثْلُ رُؤُوسِ الشياطِينِ التي لَمْ نَرَها بأنها في منتهى البشاعَةِ والْـقُبْحِ؛ وهكذا شجرةُ الزَّقُّومِ بأنها في منتهى المرارة والبشاعَة والضَّرَرِ؛ وهكذا نعيمُ الجنة مما لم تَرَه عينٌ، ولا سمعتْ به أُذُنٌ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بشَرٍ؛ فكل ذلك في منتهى النعيم والَّلذَة.. وهكذا العنقاءُ والغولُ والسَّعْلاةُ؛ وأما التَّخَيُّلُ فشيٌ قد أُعَرِّجُ عليه إنْ شاء الله تعالى.. ثم قال (جون لوك) كما في ص442: ((وفي استقبال الأفكار البسيطة لا يُبْدي العقلُ نشاطاً إيجابياً؛ وإنما دورُه سَلْبِيُّ بحْتٌ؛ فهو لا يستطيع أن يرفضَ تقبُّل هذه الأفكَار أو أنْ يُعْدِمَها؛ فهو أشبه بالْـمِرْآةِ التي لا يمكنها أنْ ترفض استقبالَ الصورِ الْـمُنْعكسة على صفحتها، أو تعدِّل فيها، أو تمحوها؛ فالعقل قبل دخول الأفكار البسيطة أشْبَهُ بِحُجْرةٍ مظلمة.. والإحساس الخارجي والإحساس الباطني بمثابة النوافِذِ التي يلج منها الضوء؛ ولكن ما يكاد الضوءُ أنْ [الأفْصَحُ حَذْف (أنْ) قَبْلَ الفعل ينفذ] ينفذ إلى هذا المكان المظلم؛ حتى [الأبلغ (كي) للتعليل بدلاً من (حتى) التي هي للغاية، و(أنْ) جائزةٌ؛ ولكنَّ كلامي عن الأفصح؛ لأنَّ (كاد) لِلإِيشاكِ، وليستْ للتحقيق مِثْلِ: (لكنه أحط بزعيمِ القومِ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُ قومُه)؛ فلا مَفَرَّ مِن (أنْ) ههنا] يكون للعقل قدرة لا حد لها لتعديل هذا الضوء وتحويله؛ ففي وُسْعِ العقل أنْ يُبْدِع أفكاراً مركَّبةً من أفكار بسيطة في تنوُّعٍ لا ينتهي بالجمع والمقارنة والفصل.. وهذه الأفكار المركبة لا يقابلها محسوس خارجي كما هو الشأن في الأفكار البسيطة، وتشمل الأفكار المركبة أنماطاً ثلاثة:
1 - الضروب؛ وهي تدل على صفات لا تتقوَّمُ بذاتها [الصحيح : بنفسها]، بل توجد في غيرها كالجمال في الزهرة والحديقة.
2 - الجواهر؛ وهي أفكار دالة على أشياء توجد بذاتها [بنفسها] وتوصف بالضروب، كالزهرة والحديقة والإنسان.
3 - العلاقات؛ وهي أفكار تُعَبِّر عن روابطَ كفكرة الأبوَّة والأكبر والأصغر.. والأفكارُ المركَّبة؛ (وهي ثمرة النشاط الإيجابي للعقل): جعلت الفلاسفةَ العقليين يظنون أنها فطرية نابعةَ منه [أيْ مِن العقل]، ولا دخْلَ للتجربة فيها؛ ولذلك يحرص (لوك) على تحليل بعض الأفكار المركَّبة كأمثلةٍ [الصواب: بصفتِها أَمْثِلَةً] وشواهدَ يثبت بها أنها لا تعدو في نهاية الأمر أنْ تكون أفكاراً بسيطة آتيةً بدورها من التجربة؛ ففكرة اللامتناهي لا تعدو أنْ تكون ضرباً بسيطاً لِلْكَمِّ؛ ذلك لأنَّ الْعِظَمَ [سيأتي إنْ شاء اللهُ مرادَه بالْـعِظمِ صفةً للمكان] ليس إلا ضرباً بسيطاً للمكان؛ والسرمديةَ [ليستْ إلَّا] ضرباً بسيطاً للزمان؛ فهي من قَبِيل الأفكار السلبية تنشأ حين يمضي العقل قِدَماً في التفكير دون بذْلِ أيْ جهد لِوَقْفِ توغُّله الذي لا يقف عند حد؛ فهذه الفكرة وليدةُ نشاطِ العقل بتأليفه بين أفكارٍ بسيطةٍ مستمدة من التجربة؛ فالعقل يبدأ من المتناهي؛ ذلك أننا لما كان وجودنا وجوداً متناهياً محدوداً بالمكان والزمان فإننا نتصور مكاناً لا نهاية له، وزماناً لا يحدُّه حَدٌّ؛ وذلك بطريق المقارنة والتخيُّلِ.
قال أبو عبدالرحمن: ههنا وقفاتٌ:
الوقْفَةُ الأوْلى: أنَّ (لوك) يُريْدُ بالأفكار البسيطةِ ما يَسْتَقْبِلُهُ الْـعَقْلُ مِن الحسِّ مِن صُوَرٍ لأشياءَ مَوْجُودَةٍ في الواقِع كَلَوْنِ شَيْءٍ أَصْفَرَ؛ فذلك اِسْتِقْبالٌ يعتمِدُ على الحسِّ الْـمُباشِرِ، ولا يَعْتَمِدُ على الحسِّ الْـمُرَكَّبِ الذي هو التَّجْرِبَةُ كالْوَزْنِ، والقيمةِ الغِذائية في التُّفاحَةِ، وفاعِلِيَّةِ السَّنا مكي في الإسْهالِ؛ ولقد أسْلَفْتُ أنَّه يَحْصُلُ للحسِّ الْـمُباشِرِ مِن غَيْرِ تَجْرِبَةٍ العلاقاتُ والفوارِقُ بينَ الْـهُوِيَّاتِ.
والوقْفَةُ الثانيةُ: قَوْلُ (لوك): (إنَّ الْـعَقْلَ لا يُبْدِي نشاطاً في اسْتِقْبالِ الأفكار البسيطةِ): فيه خَلَلٌ مِن ثلاثِ جهات:
الأُوْلَى: أنَّ الْـعَقْلَ لا يَسْتَقْبِلُ أفكاراً؛ وإنما يَسْتَقْبِلُ صُوَرَ موجوداتِ كما هِيَ، وكما هُوَ واقِع الْـحِسِّ مِن قُوَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ؛ فليستْ رُؤْيَةُ حادِّ الْـبَصَرِ الْـقَمَرَ كَرؤْيَتِهِ بواسِطةِ (التِّلِسْكُوبِ).. والأفكار تَنْبُعُ من الْـعَقْلِ نَفْسِه بالْـمَلَكاتِ التي فطَرَه الله عليها من الحفظِ والتَّذكُّرِ والاسترجاعِ، فتكونُ جمِيْعُ أحكامِه التي هي أفكارُه كَحُكْمِهِ بأنَّ هذا نافع، وذلك جمِيلٌ، وهذه الْـمَعْرِفَةُ قاصِرةٌ عن إدْراكِ الواقعِ كما هو؛ وهكذا أضدادُ هذه الأشياء.
والجهةُ الثانِيَةُ: أنَّ (كونَ الْـعَقْلِ لا يُبْدِيْ نشاطاً فيما يَسْتَقْبِلُهُ مِن أفكارٍ [مِن صُوَرِ الْـمَحْسوسات كما هي عليه كما بيَّنْتُ ذلك آنفاً]: تَحْصِيْلُ حاصِلٍ؛ لأنَّ الْـعَقْلَ أمِيْنٌ في اسْتِقْبالِ صُوَرِ الْـمَوْجودات كما هي عليه؛ وإنما تأتي أحكامُه التي هي أفكارُه من خلالِ فَرْزِه الوقائِعَ وما بينَها مِن علاقاتٍ ومفارقاتٍ وَوُجُوهِ شبَهٍ.
والجهة الثالِثَةُ: أنَّ (تَشْبِيْهَهُ الْـعَقْلَ بِحُجْرَةٍ مُظْلِمَةٌ قَبْلَ اسْتِقْبَالِه صُوَرَ الْـمَوْجوادَاتِ بِحِسِّهِ): تشْبيهٌ خاطئٌ ليس في مُسْتَوَى تَشْبِيْهِهِ الصحيحِ الْـمُمْتِع عندما شَبَّهَ العقلَ بالصفحةِ البيضاءِ؛ بل الْـعَقْلُ فيما لَـمْ يُدْرِكْهُ بَعْدُ من الصُّوَرِ كما هو (صفحةٌ بيضاءُ) وَحَسْبُ.. وفي ديننا المعصومِ مثلِ سورةِ الضحى أنَّ الله امتَنَّ على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم (ولله الْـمِنَّةُ وَحْدَه) بأنه وَجَدَه ضالّاً فَهَدَاه؛ ومع هذا لا يجوز وَصْفُ عَقْلِ محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه حُجْرَةٌ مُظْلِمَةٌ؛ بل هو على الصَّفاء والنَّقاء، والله أعلمُ حيثُ يجعَلُ رسالَـتَه، وقد طَهَّرَه رَبُّه وحماه من عبادَةِ الأصنام، وانتهاك الْـمُحَرَّماتِ بفطرتِه جلَّ جلاله التي فطره عليها، وجَعَلهُ مُتَحَنِّثاً مُتَعَبِّداً مُتَبَتِّلاً على الإجمالِ؛ إذْ لم يَأتِهِ التفصيلُ لأحكامِ شرعِ ربِّه وأخبارِه؛ فَعَقْلُه بأبي هو وأُمِّي وهو أَعْبَدُ العابدين فيما لم يَأْتِهِ بيانه صَفْحَةٌ بيضاءُ لا حُجْرَةٌ مُظْلِمَةِ؛ فأيُّ مَطْمَحٍ وراءَ حِلْيَهٍ مَن جَعَلَهُ ربُّه أفضلَ النبيين والمرسلين؛ وإلى لقاءٍ في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى. والله المستعان.