زكية إبراهيم الحجي
حضور التساؤل عن المستقبل في ثقافة أي مجتمع هو دليل حيويته.. فبقدر حضوره في تكوينه الفكري تتحدد قابليته للتطور وقدرته على التقدم.. والحاجة إلى التفكير بالمستقبل تتطلب فهم الأبعاد الثلاثية للزمن استذكار الماضي المثقل بالذاكرة التاريخية دون الغرق فيه والوعي بالحاضر وصخبه في ظل العولمة.. ورسم خطوط تصورية تحدد الإطار العام لأهم ملامح إستراتيجية استشراف المستقبل والذي ما زلنا نعاني غياباً لرؤيته في كثير من مظاهر حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، بل في بنية تفكيرنا أيضاً.
إن استشراف المستقبل ليس مجرد تخيلات مستقبلية لإرضاء النزعة التواقة بشغف إلى كشف المجهول والغائب عن المحسوس.. كما أن الاهتمام بدراسته ليس من باب الترف الفكري ولا حتى مجاراة لما تقوم به الدول المتقدمة التي ترسم مصائرها وربما مصائرنا.. وتحدد معالم كيانها وتواجدها الأبرز في عالم الغد.. بل هي حاجة تفرضها واقعية قرن المفاجآت العلمية المتلاحقة.. وثورة الاتصالات والتقنية المتجددة يُضاف إلى ذلك ما يزخر به العالم من تناقضات وصراعات انعكست آثارها على حياتنا بشكل عام.
وعلى الرغم من اختلاف الرؤى وتعدد وجهات النظر حول ماهية الدراسات المستقبلية.. وهل تُصنف ضمن مجال العلوم أم الفنون أم الدراسات البينية أي الدراسات التي تعتمد على حقلين أو أكثر من حقول المعرفة إلا أنها أخذت النصيب الأوفى من كل مجال من هذه المجالات لتُشكّل في نهاية الأمر مجالاً إنسانياً متكامل المعارف والأهداف يخطط.. يحلل ويُقيِّم التطور المستقبلي لحياة المجتمع بطريقة موضوعية مبنية على منهجية شاملة تتخللها الخيارات والبدائل لمواجهة الأزمات وكيفية التعامل معها.
فإذا كان الهدف من الاهتمام بدراسة واستشراف المستقبل هو توفير أطر زمنية طويلة المدى لما نتخذه من قرارات الحاضر ومن ثم العمل لا على هدى الماضي ولا بأسلوب إطفاء الحرائق بعد وقوعها إنما العمل وفق نظرة بعيدة المدى وبأفق زمني طويل نسبياً فبلا أدنى شك أن يقابل هذا الاهتمام صعوبات منهجية متعددة فبدلاً من الانصراف للبحث عن البجعة السوداء وسط أسراب البجع الأبيض تطغى في ثقافتنا المجتمعية النظرة السلبية إلى المستقبل..وتسيطر «تابوهات» موروثة على أنماط التفكير.. وتهيمن أفكار سابقة التجهيز بعقلية وصاية فكرية غربية لسلب إمكانية الحركة والفعل فيصبح مستقبل المجتمعات أسيراً لرؤية واحدة وهي رؤية الغرب المهيمن تحت مسمى العولمة.. يُضاف إلى ذلك قلة الجهود التوجيهية، وهي إن وُجِدت فإنها تنشغل فقط بالحث على التوجه نحو البعد المستقبلي دون أن تولي تقنيات التعامل مع هذا البعد أي اهتمام بمعنى تدعو إلى التفكير بالمستقبل والإعداد له والتأكيد على أهميته، لكنها لا تقدم جهداً واضحاً لإستراتيجية احتمالات وبدائل يمكن الاستعانة بها.. كذلك لا ننسى غياب الأطر المؤسسية المتخصصة في مجال الدراسات المستقبلية وحتى إن وجدت فهي ندرة.
والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون هناك اهتمام بهذا النوع من الدراسات دون أن يكون هناك وعي وإدراك شامل لدى عامة أفراد المجتمع، وهنا يأتي دور وسائل الإعلام لغرس هذا الوعي.. كذلك دور المدارس والجامعات يأتي ضمن أولويات الاهتمام لنشر ثقافة الدراسات المستقبلية بين الطلاب لترشيدهم على كيفية مواجهة أحداث المستقبل..وتمكينهم من اكتساب قدرة التفكير العلمي وتشجيعهم على التفكير بحلول ابتكارية للمعضلات المحتملة.
إن ثقافة الدراسات المستقبلية ستظل تراوح مكانها إن لم نسع إلى إعادة تشكيل عقول الشباب وخلق اتجاهات وطنية شبابية بفكر منهجي منظم يحلل وينقد ويستنتج بعقلانية.. نحن بحاجة إلى عقول تستشرف المستقبل حتى لا تبقى قضايانا في إطار الأمنيات.