زكية إبراهيم الحجي
كانت ظاهرة الفقر - ولا تزال - من أبرز المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تنتشر في المجتمعات البشرية منذ الأزل.. وما ترتب عليها من آفات اجتماعية كتفشي الأمراض، وشيوع الفساد، والانحلال الخلقي.. وغيرها من الآفات التي أثرت سلبًا على الواقع المعاش للأفراد من جهة، وعلى تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى. هذا عدا كونها من أخطر القضايا وأكثرها تعقيدًا وقياسًا؛ وذلك بسبب المفارقة الواقعية التي تجمع بين الأسباب والنتائج. ولعل ارتباط التراث التاريخي لهذه الظاهرة خير شاهد على ذلك؛ فالعديد من الثورات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي تحدث عنها التاريخ الإنساني على مر العصور كان الفقر من أهم أسبابها الرئيسة. ولم يخطئ أرسطو في مقولته «الفقر هو مولد الثورات والجريمة».
لقد أصبحت ظاهرة الفقر تشكل هاجسًا لمختلف المجتمعات، وبدرجات متفاوتة، تتشعب وتتسع بفعل تعدد العوامل والمتغيرات التي بدورها تتأثر بتفاعل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمع. وعلى الرغم من التقدم في مسيرة التنمية المستدامة لبعض المجالات إلا أن ظاهرة الفقر ما زالت سببًا لكثير من المعضلات الصحية والاجتماعية والأزمات النفسية والأخلاقية، وما يسببه من انعكاسات خطرة، تهدد ديمومة الحياة البشرية.
فإذا كانت التنمية المستدامة هي التنمية التي تلبي حاجات الجيل الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة.. فإن الارتباط بين الفقر والتنمية المستدامة هو ارتباط بين متضادين، وذلك يعني أن علاقة عكسية تربط بينهما.. فكلما زاد التقدم والتطور قلَّ الفقر والحرمان في المجتمع.. فإذا ما سلمنا بأن الفقر هو مفهوم نسبي، بمعنى أن مفهوم الفقير قد يتغير من زمن إلى آخر، فإننا نكون أمام حالة استمرارية ظاهرة الفقر عبر الزمن.. بل إن الفقير حتى بمفهومه المطلق، الذي يمكن اعتباره ذلك الذي لا يجد قوت يومه وليلته، ظل موجودًا عبر مختلف العصور.
فإذا كان مستوى المعيشة يهدف بشكل مباشر إلى قياس كفاءة حياة الأفراد بمختلف طبقاتهم؛ وبالتالي الوصول إلى مستوى معيشي ملائم إلى حد الكفاية.. فإن الهدف الأساسي للتنمية المستدامة هو الوفاء بحاجات المجتمع.. وتحقيق الرعاية الاجتماعية لأفراده كافة على المدى الطويل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مفهوم التنمية يستند أساسا إلى الإنسان.. الذي يعتبر الغاية الأساسية لعملية التنمية البشرية سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا.. ثقافيًّا وعلميًّا وفكريًّا.. وبديهي أن أي تراجع أو تردٍّ في الحالة الاقتصادية لأي دولة فإنه حتمًا سينعكس بشكل أو بآخر على واقع المجتمع وأفراده؛ فتبرز السلبيات، وتطغى وتهدد.
الجذور المشتركة بين المشكلات الاقتصادية والتنموية، وانعكاسها بالتالي على ظاهرة الفقر، يتمخض عنها علاقات تبادلية بين متضادين (التنمية المستدامة والفقر). فبلوغ التنمية المستدامة أعلى مستوياتها يعني انحسار ظاهرة الفقر في أدنى مستوياته، وبالعكس؛ فإن ارتفاع مؤشر ظاهرة الفقر مرهون بتدني مؤشرات التنمية المستدامة. وترجع أسباب ذلك إلى عدم القدرة على توفير أو تحقيق حد الكفاية من احتياجات الحياة الاجتماعية لأفراد المجتمع، التي تؤمنها لهم مستويات التنمية المستدامة المرتفعة.
التنمية المستدامة وسيلتها وغايتها «الإنسان»، وتوفير فرص الحياة الكريمة له ولأبنائه وللأجيال القادمة.. وطالما أن هذا الإنسان لم تتحقق له فرص الحياة الكريمة، ولم تؤمَّن له الكفاية من احتياجاته الاجتماعية، كالصحة والتعليم وفرص العمل، فإن التنمية المستدامة ستفشل في تأمين الوسيلة وتحقيق الهدف والغاية.