لم يهتم أوباما كثيرًا بشؤون السياسة الخارجية، ولم يبال بانتقادات الناس لعدم اهتمامه، ولكن قبل أقل من تسعة أشهر على نهاية رئاسته، فإن السيد أوباما مشغول الآن بإعادة صياغة ذاته كمعلم ومرشد في العلاقات الدولية. الرئيس الأمريكي أجرى حوارات مطولة بشأن السياسات الخارجية لمجلات مرموقة وعلمية يقرؤها فقط مجموعة من كبار رجال السياسة والذين لم يكن مرحّبًا بهم مطلقًا داخل بيته الأبيض. كما أنهى الرئيس أوباما أيضًا أسبوعًا طويلاً من التجوال في أوروبا، ثبت قصورها عن التوصل لأية نتائج حقيقية، ولكنها في المقابل كانت مفعمة بفرص التقاط الصور؛ كما أنه يخطط لجولات موسعة أخرى لآسيا في المستقبل القريب. إحدى التفسيرات لذلك التحول المذهل هو الرغبة التقليدية لأي رئيس أمريكي في أن يغادر منصبه تاركا وراءه تركة إيجابية. ولكن هناك سببا آخر لتلك الجهود المحمومة من السيد أوباما لتفسير توجهه الانفتاحي نحو العالم، وهو شبه تأكده من أن السياسة الخارجية سيتذكرها الناس على أنها أحد أكثر أوجه رئاسته إثارة للجدل.
ما يشار إليه بصورة كبيرة على أنه «مبدأ أوباما»، لم يترك أمريكا ضعيفة فقط على المشهد العالمي، ولكنه الآن يقلص خيارات السياسة الخارجية المتاحة لخليفته ويمكننا رؤية هذا الأمر بشكل جلي في الأفكار المتعلقة بالسياسة الخارجية التي تطرحها هيلاري كلينتون الآن ، وذلك الخواء الفكري الذي يتسم به دونالد ترمب ، و كلاهما نتيجة للأخطاء الأساسية التي خلفها أوباما بسبب رؤيته في السياسة الخارجية.
أي رئيس كان سيأتي بعد جورج دبليو بوش، كان يتحتم عليه أن يكون أكثر حذرًا في استخدام القوة الأمريكية. وفي الوقت الذي دخل فيه أوباما إلى المكتب البيضاوي، كانت الولايات المتحدة قد أنفقت معظم سنوات عقدها الأخير في حروب لا تستطيع الانتصار فيها، كما شعر المواطن الأمريكي بالإجهاد والتعب من الأزمة المالية العالمية. لذلك تمتع أوباما بدعم شعبي واسع لقراره بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق، ولرفضه بعد ذلك التفكير في استخدام القوة كرد فعل أمريكي تلقائي أمام أي أزمة. كما كان أوباما محقًا عندما تساءل عن جدوى فكرة أن أي صراع كبير يتطلب التدخل الأمريكي، أو أن أي أزمة لديها حل مصنوع في واشنطن. وكما قال مايكل ماندلباوم، أستاذ السياسة الخارجية بجامعة جونز هوبكنز في كتاب له، و قدم فيه تفسيرا فكريًا متماسكًا لموقف أوباما، أن الولايات المتحدة انتقلت من فشل إلى آخر في السياسة الخارجية بسبب أنها سمحت لنفسها «أن تهتم بالسياسات الداخلية والاقتصاد بدلا من الاهتمام بالسلوك الخارجي للدول الأخرى».
ولكن أوباما كان مخطئًا في افتراضه أن انحيازه ضد استخدام القوة لن يفرض تداعيات طويلة الامد على موقف ونفوذ أمريكا في العالم. فالرئيس يتمسك في زعمه ذلك حتى الآن بأن «أمريكا لا تزال القوة الأكبر التي لا يمكن الاستغناء عنها»، بينما في الوقت ذاته لا يجد حرجًا في الإفصاح عن أمله في أن تلك المكانة يمكننا الحفاظ عليها بأقل التكاليف.
كما أحاط الرئيس نفسه أيضًا بكبار مستشاريه الأمنيين الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة لديها التزامات أخلاقية وحتى قانونية باستخدام القوة لتصحيح الأخطاء حول العالم، والسيدة سامنثا باور، السفيرة الحالية للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، هي مؤلفة كتاب شهير ينتقد الإدارات الأمريكية السابقة لأنها فشلت في «مسئولياتها عن حماية» الدول الأخرى من قادتها القتلة، ولكن عندما يقترح مستشاروه - كما فعلوا مرارا وتكرارا في الحرب على سوريا ـ بأن الوقت ربما قد حان للولايات المتحدة لردع الأسد، فإن أوباما كان يتجاهلهم تمامًا.
يخلص جيفري جولدبيرج الصحفي الذي أكمل حوارًا بطول 40 صفحة مؤخرًا مع أوباما لمجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية إلى أن «أوباما لا يؤمن بصورة عامة أن الرئيس يجب أن يضع الجنود الأمريكيين في وجه خطر متعاظم»، إلا إذا كانت الأزمة «تمثل تهديدًا أمنيًا مباشرًا على الولايات المتحدة». ومرة ثانية، هذا موقف مفهوم تمامًا، ولكنه مزعج للغاية لحلفاء الولايات المتحدة.
رئيس الولايات المتحدة لم يقدم مطلقًا تعريفًا عمليًا لما يمكن أن يمثل تهديدًا وجوديًا على الولايات المتحدة يتطلب استخدام القوة. فالغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014 وصفه أوباما بأنه لم يمثل خطرًا مباشرًا، بالرغم من أن تلك كانت هي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي يتم فيها ضم جزء من دولة أوروببية إلى أراضي دولة أخرى في أوروبا. كما أن سلوك الصين في بحر الصين الجنوبي لم يعتبره أوباما يمثل تهديدًا مباشرًا للولايات المتحدة أيضًا، ولا حتى كوريا الشمالية بالرغم من سعيها النووي المتواصل.
ويرى أوباما أن سوريا لم تستحق أيضًا تدخلاً عسكريًا أمريكيًا، بالرغم من حقيقة أن الرئيس نفسه أعلن بكل وضوح أنه «عندما يُقتل مئات من الأطفال الأبرياء» في ذلك الصراع «ولم يكن هناك رد فعل، فإننا بذلك نرسل إشارات أن المعايير الدولية لا تعني الكثير، وهذا يمثل خطرًا على أمننا القومي». ومنذ ذلك الحين، ما يقرب من نصف مليون مدني سوري سقطوا بنيران جيش ديكتاتور سوريا بدون أن يؤدي ذلك لأي تدخل أمريكي.
لو أخذنا في الاعتبار ذلك السجل لباراك أوباما، فإن حلفاء الولايات المتحدة من حقهم أن يتساءلون ما إذا كانت الضمانات الأمنية التي يتمتعون بها الآن سوف يتم تفعيلها في أوقت الأزمات، ولكن بدلا من تفنيد هذه المخاوف، فإن أوباما وبكل بساطة يصف تلك المخاوف بأنها غير عقلانية؛ فواحدة من أهم خصائص هذه الإدارة هي تنفير حلفائها في الوقت الذي تلاطف فيه أعدائها: فالأوروبيون تم انتقادهم علانية بأنهم يريدون ركوبا مجانيًا، وعندما فتح قادة إيران النيران على التظاهرات المحلية أو عندما قبضوا على بحارة أمريكيين في أعالي البحار، فإن واشنطن هنأت نفسها على قدرتها على الحفاظ على صمتها الرسمي.
وبالرغم من ذكائه وفطنته ، فإن أوباما يرفض ببساطة قبول أنه عندما تراجع عن «خطوطه الحمراء» الشهيرة بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا، فأن ذلك قد أضر بالسمعة الأمريكية. كما يرفض الرئيس حجة أن أي تهديد باستخدام القوة يجب أن يدعمه استخدام حقيقي للقوة على الأرض، فهو يسخر من ذلك ويصفه بأنه مثل «إسقاط القنابل على شخص لإثبات أنك راغب أن تسقط قنبلة عليه». وبالرغم من أن تلك نكتة ماهرة، إلا أنها تجافي وتظل الحقيقة التي تقول أنه عندما يهدد القادة الأمريكيون صراحة باستخدام القوة ويفشلون في تحقيق ذلك، فإن ذلك يشجع أعداء الولايات المتحدة. فقد قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن يرسل قواته إلى سوريا تحديدًا لأنه أدرك أن الرئيس أوباما ضعيفًا. وكانت النتيجة هي أن التفوق الأمريكي في الشرق الأوسط الآن أصبح على المحك؛ وبالتالي لا الولايات المتحدة ولا الشرق الأوسط أصبحا أفضل حالاً الآن كنتيجة لذلك.
ولكن ربما النتيجة الأخطر لمبدأ أوباما هو تقليص المناظرات بشأن السياسة الخارجية بين خلفائه المحتملين أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الحالية. بالطبع لا نستطيع أن نحمّل أوباما مسؤولية ظهور السيد دونالد ترامب، فأيقونة الأعمال والعقارات ذلك ما هو إلا حادث عارض في التاريخ الأمريكي أكثر من كونه نتاجًا للديموقراطية الأمريكية. ولكن بالرغم من أن استراتيجية السياسة الخارجية لترامب تعد خليطًا من الأكليشيهات والتفاهات التي من الأفضل تجاهلها، إلا أن الكثير من الافتراضات التي يطلقها ذلك الجمهوري الطموح يتشاركها ضمنًا المرشحون الآخرون للرئاسة الأمريكية.
كل المرشحين للرئاسة يبدو أنهم ينظرون إلى النظام الدولي الحالي وكأنه مسلم به، ويفترضون جميعا أن الأمر يعود إلى الولايات المتحدة لتقرر مدى وحجم تورطها فيه و جميعهم يقترحون أن معظم الصراعات الدولية يجب أن نتركها لتحرق نفسها بنفسها في النهاية، بغض النظر عن كم المذابح التي تنجم عنها. وكل المرشحين يطالبون «الآخرين» بأن يفعلوا المزيد لحماية أنفسهم، بدلا من توقع ذلك من واشنطن.
فكرة أن النظام الدولي بوضعه الحالي يخدم الأغراض الأمريكية، وأن الولايات المتحدة تحصل على أفضل ما لدى حلفائها عندما تقودهم بالمثال بدلا من توبيخهم علانية يبدو أنها قد اختفت من المناقشات الانتخابية الحالية. وكثير من اللوم في ذلك يقع على مبدأ أوباما ومساوئه. وبالرغم من أننا لا نعترف بذلك علانية، إلا أن السيدة كلينتون هي الأكثر وعيًا بأن واحدة من أولى مهامها عندما تفوز بالبيت الأبيض سوف تكون التخلي عن مبدأ سلفها. ولكن السؤال هو هل ستستطيع أن تحظى بقبول الكونجرس والرأي العام لتحقق سياسة أمريكية أكثر حزمًا في ظل االمناظرات الحالية عن تلك القضية؟
- جوناثان إيال