د.عبد الرحمن الحبيب
اعتاد البعض على التعليق السالب: «المهم التنفيذ» كلما ظهرت خطة عمل.. قول سليم لكنه غير مفيد. الأكثر سلبية عندما تكون الخطة نقلة نوعية تحتاج اهتماماً بالغاً فيظهر من يضع رجلاً على رجل ويمط شفتيه بكسل قائلاً: إنها كلام في كلام..
ساعد على تلك التعليقات السالبة آلية التنفيذ الآني المباشر بلا خطة عمل شاملة التي كانت سائدة في كثير من القطاعات؛ آلية تعتمد على منهجية القرارات الدورية التي قد لا تتسق مع بعضها مما يصعب تقييم كل قرار على حدة، فقد يصيب وقد يخيب، والعبرة بانتظار التنفيذ ولا قيمة للخطة. أما الخطط التي كانت توضع فكثيراً ما تكون إنشائية تعتمد على بلاغة الكلام أكثر من المدلول العملي، بل أحياناً لا يقرأها حتى رئيس القطاع. إنما رؤية المملكة 2030 وخطتها، التي طرحها ويرعاها ولي ولي العهد محمد بن سلمان، ونالت اهتمامنا جميعاً فتمثل تحولاً ليس في الخطة فقط، بل أيضاًَ في منهجية التخطيط.
ليس من السهل تغيير الذهنية السائدة ونمطية العمل خاصة الحكومي، مما أثار شكوكاً وتساؤلات يطرحها كثيرون عن مدى إمكانية نقل اقتصادنا الوطني المعتمد على النفط إلى اقتصاد يعتمد على الإنسان وتوظيف الموارد.. التحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد استثماري. فكيف نقيِّم هذه الرؤية الطموحة؟
بشكل عام، يمكن وضع معايير أساسية لتقييم الخطط تتلخص في قابليتها للتطبيق وللقياس وللتقييم؛ ولكل واحدة منها معاييرها الخاصة. فالخطة قد تكون قابلة للتنفيذ لكن بلا آليات محددة، أو قد تمتلك هذه الآليات ولكنها غير قابلة للقياس ومن ثم يصعب تقييم أدائها ومحاسبة المسؤولين عن كل قطاع، فتنحرف الخطة عن أهدافها..
إذا أردنا تقييم رؤية 2030 من ناحية قابليتها للتطبيق، فيمكن فحص عنصرين: طبيعة الظروف (نقاط القوة والضعف) وآليات التنفيذ. الخطة راعت ذلك، حيث ذكر الأمير محمد بن سلمان أن الرؤية ترتكز على ثلاثة عوامل قوة أساسية لم تستغل على نحو أمثل، وهي: العمق العربي الإسلامي بوجود الحرمين الشريفين، توفر موارد استثمارية ضخمة، الموقع الجغرافي الإستراتيجي للمملكة؛ ثم فصَّل فيها..
أما بقية الظروف فتشمل: البنية التحتية، ملاءمة الخطة للأوضاع الاجتماعية والثقافية، توفر البيئة القانونية، الهيكل الإداري، الكفاءات الفنية..الخ، كلها تمت مراعاتها، رغم أن بعضها يعتريه النقص تطبيقياً كالبيئة القانونية للاستثمار والكفاءات الفنية، لكن آليات التنفيذ ستحاول تلافيها، كتهيئة الشباب السعودي لسوق العمل عبر شراكات مع القطاع الخاص وبرامج للتأهيل، وربط مخرجات التعليم بسوق العمل..
لقد طرحت الرؤية آليات التنفيذ بوضوح، ومن أهمها: إعادة هيكلة الحكومة، إصلاح وتطوير الأجهزة الحكومية، مراجعة الأنظمة القائمة وسن أنظمة جديدة، برنامج التحول الوطني، برنامج الشراكات الدولية الإستراتيجية، التوسع في الخصخصة.. وأهمها كبداية، برنامج التحول الإستراتيجي لشركة أرامكو السعودية.
المعيار الثاني وهو قابلية القياس الذي كان من أكثر المعايير غموضاً عندما يقول مسؤول أنه سيطور قطاعه بكلام إنشائي بليغ صعب القياس. هنا نجد أن الأهداف التنفيذية للرؤية خلال الخمس الأعوام المقبلة قابلة للقياس.. خذ مثلاً: تخفيض معدل البطالة من 11.6% إلى 7.0%..، رفع نسبة مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من 40% إلى 65%... وعلى هذا المنوال تسري كافة الأهداف بلغة رقمية ناصعة الوضوح.
بعد معرفة مقاييس الأداء فإن المعيار الثالث وهو قابلية الاختبار وتقييم الأداء، يتطلب تحديد موعد نهائي للتقييم فضلاً عن المتابعة الدورية المستمرة، وقد حددت الرؤية ذلك.. وأهم الآليات لها هو الشفافية، والحوكمة، وتوفير جهاز فني للمراقبة. كل تلك الإجراءات حددتها الرؤية.. حيث صدر قرار بإنشاء المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة لتنفيذ البرامج، واعتماد مؤشرات قياس الأداء بما يعزز المساءلة والشفافية.. يقول محمد بن سلمان: «نرسم ملامح الحكومة الفاعلة من خلال تعزيز الكفاءة والشفافية والمساءلة وتشجيع ثقافة الأداء»؛ وسيشرف على تنفيذ عمل الرؤية ومراقبة ومراجعة أدائها مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
عبر هذه المعايير يمكن القول أن الرؤية تضع خطة شاملة سليمة واضحة تقنياً محددة بالأرقام، وبلغة عملية مسؤولة؛ لكنها ليست منزهة عن الثغرات فضلاً عن غموض لكيفية تحقيق بعض أهدافها على أرض الواقع، مثل: رفع نسبة الصادرات غير النفطية إلى إجمالي الناتج المحلي غير النفطي من نسبة 16% إلى 50%، وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من نحو 163 مليار ريال سنوياً إلى نحو واحد تريليون ريال، زيادة الطاقة الاستيعابية لاستقبال ضيوف الرحمن المعتمرين من ثمانية ملايين إلى ثلاثين مليون معتمر. تساؤل مشروع خاصة من غير المتخصصين عن كيفية تحقيق ذلك الأمر الذي يبدو مفرطاً في طموحه؟ ربما التساؤل يرجع إلى النقلة النوعية الكبرى للخطة مقارنة لما اعتدنا عليه، أو ربما بسبب عدم اكتمال المعلومات عنها فهي رؤية عامة ستتبعها الخطط التفصيلية لكل قطاع.. إذ ذُكر في نص الرؤية: «وحرصاً على توضيح آليات العمل والخطوات القادمة، فقد قمنا بسرد بعض البرامج التنفيذية التي بدأ العمل عليها... وبرامج أخرى تمثّل نماذج من البرامج التي ستطلق قريباً..»
ورغم أن سمو ولي ولي العهد ناقش الخطة لاحقاً في لقائه على قناة «العربية» بطريقة منظمة واضحة ومشجعة تزيل اللبس وترفع المعنويات القلقة حيث أيقظ مكامن قوة فينا وفي بلادنا ربما نسيناها فنامت.. فإنه لتوضيح بعض ما يعتري الخطة من غموض ينبغي توفير المشاركة الفعلية الدائمة من المؤسسات المدنية والحكومية، ولا يكتفى بالمشاركات الطارئة في ندوات دورية يفاجئ بها المشاركون دون تحضير. أفضل وسائل المشاركة هي الشفافية؛ كما أكدتها الرؤية وشدد عليها ولي ولي العهد باعتبارها داعماً قوياً للرقابة.. إنما ينبغي التنبيه هنا أن الشفافية ليست فقط توفير المعلومات بل أيضاً وضوحها ودقتها.
أخيراً، لمن اعتاد القول إن الخطط مجرد كلام في كلام ويريد التنفيذ مباشرة، أقول إنك لا تستطيع التنفيذ الفعَّال قبل الخطة السليمة مثلما أنك لن تنجح إذا وضعت العربة أمام الحصان.. وأقول للمسؤولين المنفذين للخطة الخاصة بقطاعاتهم: تستطيع أن تأخذ الحصان إلى النهر لكنك لا تستطيع أن تجبره على الشرب كما يقول المثل.. فينبغي مراعاة تطبيق الخطط بما يتلاءم أوضاعنا كما نبهت عليها الرؤية..