أحمد الدويحي
انتُزعت مني الضحكات بصوتٍ عالٍ في لحظات مدهشة، وبلا مبالاة بالمحيطين بي، لما كان سياق الحدث يسيطر على مشاعري ، والواقع أن الصديق الروائي علي الشدوي، مدني مشكوراً بـكتابة كالعادة على (دي سي) منذ فترة بعيدة، وكانت عبارة عن مخطوطة رواية جديدة، وسمت بـ ( الشدوي ) تقع في 79 صفحة فقط ، وصدرت هذا العام عن دار طوى ، ولكني لسبب لا أعرفه لماذا لم أكمل قراءاتها في حينه ، ربما وفاء لعشقي القديم وقراءة المنتج الورقي، وقد تحققت لي اليوم القراءة في إحدى صالات الانتظار، وكنت بين مرضى القلب بأحد المستشفيات الكبيرة.
تبدأ أحداث الرواية في مقهى الشعب، وبداية الرواية من مقهى بهذا الاسم لا تخلو من الدلالة، إذ يأخذنا الراوي بعد أن يعلمنا نحن القراء،كيف نتعاون معه، ولا نتعجل في إصدار حكم حتى تتجمع أدلة كافية في ( تداعيات لا يعرفها إلا من جرب أن يحكي لأحد ما، يولد الحدث من أحداث، ومن الأحداث أحداث أخرى، وأمام حدث وتداعياته لا يملك الراوي إلا أن تكون فوضى السرد هي الأسلوب المناسب، فوضى السرد النامي المتشّعب لكي يواكب الحدث، ولما قيل: تنمو الأغصان من الجذع، وتنمو من الأغصان الشّعب، كذلك السرد ينمو ويتشعّب في الموضوعات الحفيلة ) ص 79.
الكلام السابق بين قوسين المقتبس من الرواية، ليس مجرد كلام يكتب ويطلق على عواهنه، ولكنه توصيف مكثف جداً ، ويمكن أن تستل من حكايات شخوص الرواية ، حكايات أخرى ننسجها نحن القراء، ونكتب منها روايات تتجاوز عدد صفحاتها، صفحات الرواية التي بين أيدينا، لأن رواية ( الشدوي ) التي حضر الراوي بين شخوصها راوياً عليماً، والرواية وبطلها ( أبو الطيور) بالذات، تتفرع عنه ومنه كل الحكايات، وحتما لا يمكن في البداية أن نغفل سيرة المكان، شدا الأعلى بكل أساطيره وطقوسه التي صبغت النص، وتظهر بشكلٍ جلي في مفاصل الحوار باللغة المحكية الشعبية، وتبرز حدتها وطابعها الشتائمي لتعكس الحالة النفسية والتحولات المجتمعية لسكان جبل شدا، ويعرف سكان منطقة الباحة أن سكان جبل شدا الأعلى، هُجروا من الجبل لصعوبة تقديم خدمات تنموية لهم، وظل بعضهم رغم قسوة الحياة، يتمسك بالحياة في جبل شدا الأعلى.
جبل شدا الأعلى، جاء ذكره في المصادر القديمة والرسوم الأثرية القديمة، وورد ذكره في السِّيَر وكتب الرحالة والدراسات الحديثة لأبناء المنطقة، وقصائد شعراء الجنوب عبر عصور متراكمة، وهو جبل صخري مرتفع، يُعدّ أعلى جبل في سهل تهامة، يقع تقريبًا بين مدينتي قلوه والمخواة جنوب غربي المملكة، ويقدر ارتفاع قمة الجبل عن مستوى سطح البحر، بما يقرب من 2.900 م،تغلب على تضاريس الجبل الصخور الملساء العارية، مما يعطي الجبل لونًا أزرق باهتا، الجبل الذي إذا تجاوزنا كل الأساطير التي نسجت حوله، فهو جبل مهاب وعظيم، وأعلى الجبال في الجزيرة العربية أو ( إفرست الجزيرة) كما سمّاه علاّمة الجزيرة العربية حمد الجاسر في كتابه (في سراة غامد وزهران)، ونكتشف في هذه الرواية أنها تلتمس النهايات للحالات الأسطورية، وذهب الراوي المفرد مسافة بين السارد وروح الفيلسوف، وربما لهذا السبب جاء عنوان الرواية أيضاً مفردا، ليتجاوز بالحدث في شكل دائري بين شدا الأعلى والأمكنة الجديدة، ليبقى الجبل كمكان محوري ثابت، ترتبط به حياة الناس في كل المدن بالعالم الخارجي، الموت، النهايات المأسوية، هي القدر المحتوم لعائلة الشدوي، وممكن أن تذهب بنا فوضى السرد يميناً وشمالاً، لكن يظل هذا الحزن الشاسع طاغياً في كل مكان، الحنين المعنى لكلمة نوستالوجيا التي أخترعها طالب إلزاسي عام 1688 ، يُدغى يوهانس هوفر ليصف مرضاً، عانى منه آنذاك الجنود السويسريون بعد أن ابتعدوا عن جبالهم، النهايات المحزنة لشخوص رواية الشدوي، تأخذ طابعا طقوسيا، ولكل نهاية لحن ولكل لحن حكاية، وهكذا تُروى حكاية اللحن الذي بدأ يعزفه أبو الطيور، قتل فتى أخته، ليُكتشف فيما بعد أن سبب حملها حجر استجمرت به، وحدها الصدفة المحضة يمكن أن تقوم بمثل هذه المعجزة، ولم يكن لأحد أن يعرف ذلك لولا الحدث الأغرب من الحكاية ذاتها، ففي الليلة التي دفنت فيها الفتاة ، غنت ( أم الصبيان ) من قمة جبل شدا وأبكت الناس، ومع تنامي الوقت حكاها الرعاة المصفرقة. .
هذا اللحن الحزين، يحضر في رحيل شقيق أبو الطيور، واستشهاد ابنه أخيه، زوج آخر العنقود بنت أبو الطيور في الحد الجنوبي في حرب الحوثيين عام 2009 م ، ورحيل ابنها إلى العراق بعد أن أصابته لوثة دينية، فذهب ليقاتل هناك وخاتمة المطاف انتحار شقيقها، أما أبو الطيور بطل الرواية فهو سيرة شاسعة، فقد أقام زربة في أرض بيضاء، وحين أكمل بناءها وجدها مدمرة وهدمها المجمع القروي، ونصحه صديقه البرتاوي أن يشتكي إلى أمير المنطقة، فالذين يعرفون أبو الطيور متكلم لبق وداهية وحكيم، لكن الذي رأوه يخرج خارجاً من الإمارة، شاهدوا ما يمكن أن نفعله حين نخجل من أنفسنا، ويسمعوه وهو يرفع لحيته أمام فمه، ليتفل عليها:
- تفوو عليك. . تفوو عليك
الرعب الذي صنع بلايا أبو الطيور، منذ خرج من بوابة إمارة المنطقة، وهو الذي لا يهزه الشبا، وتتعوذ من شجاعته الجن، لكن الأمير ( فرّغ كيسه ، وأنفق الفاظه الذهبية كلها) ، وإذا صدق الموظف الذي شاهده، إضافة إلى أخويا الأمير الذين تقافزوا حين شعروا بغضبه، لما قال له:
- - يقولون أنت أبو السباع، من الآن أنت أبو الطيور
هنا – تغير اسمه، وانقسم الناس، الذين يحبونه يكنونه أبو السباع، والذين يكرهونه يكنونه أبو الطيور، مضى الزمن حتى نُسي أبو السباع، ليستقر على أبي الطيور، وقد تحول إلى شخصية أسطورية لا تموت، وبقي حيا في ذاكرة صديقه البرتاوي الذي أشاع، أنه عاد إلى جبل شدا الأعلى بكنيته الأولى أبي السباع.