أحمد الدويحي
هل كانت صدفة أن تكون مكة بداية لعبودية «حنّا»، وتذهب إلى المنامة لتجد في قصور الأمراء والشيوخ والتجار، عبيدا مثلها نساء ورجال ساقتهم الأقدار ليكونوا تحت سلطاتهم، ويحمل كل عبد أو عبدة فيهم تاريخا من العذاب والقهر والجوع والدموع ؟
سنجد في البداية (أم الخير) العبدة الكبيرة من مجموع عبيد بن نصري، التاجر البحريني الذي ينحدر من سلالة فارسية داخل قصره، وقد طلق زوجته الفارسية وتزوج من (عائشة) إحدى بنات العشائر العربية، ولا حظ دلالة الاسم هنا – ليحظى بقبول بين الأمراء والتجار ولئلا تكسد تجارته. ويبدو أيضاً أن (أم الخير) لها من اسمها نصيب، فإلى جانب أن حظوتها في بيت بن نصري وثقتهم فيها، شكلت مصدر حنان وأمومة لــ (حنّا) المتمردة والغاضبة من عبوديتها، وأسدت لحنّا حكمة قائلة لها:
- صبر العبيد أفضل من شجاعتهم. . كوني عبدة ولا تكوني جائعة، لقد شعرت أن العبودية مع كل مظالمها وعذاباتها الطويلة تكون أحياناً تأميناً ضد الجوع وضد الفقر، بل إنها يا عزيزتي تعويض عن إهانات لا تنتهي. .
ومن يومها لم تنس (حنّا) التي صارت عبدة هذه الحكمة، ولكنها ظلت تبحث عن مسارب إلى حريتها، ودفعت الثمن لما ترددت ثلاث مرات على سيدها، لعلها تستعيد اسمها القديم الذي ولد معها، فتجاهل طلبها في المرة الأولى، ولسع مؤخرتها بالسوط في المرة الثانية، وأومأ للعبد فرج في المرة الثالثة، ليسحبها بشعرها ويسجنها في قبو تحت الأرض، تعيش بين الصراصير والفئران عشرة أيام لا ترى الشمس، وتتناول طعامها وماءها بلا كلام من فتحة بقبضة اليد، ولتقضي أوقاتها في البكاء والنوم قبل ما تكتشف طاقة جسدها في الرقص، وقد اكتشفت تلك الطاقة في الحفلة الكبيرة التي أقامها بن نصري في قصره، وحضرها كولونيل الحاكمية البريطانية وأمراء وتجار كثر، ورقصت على قرع طبول ودفوف فرقة العبيد، تلك الرقصة التي ستقودها أيضاً حفلة الكنيسة الأمريكية، وتتابع عزف وأناشيد الفرقة الموسيقية الأمريكية التابعة للكنيسة، والمكونة من العبيد الصغار يصدحون بالعزف والغناء، فدهشت حنا مما رأت وكأن الفن يحقق لها الحرية، لولا أن سيدتها (عائشة) قالت لها في طريق العودة:
- أن جميع هؤلاء الصبية من الفرقة كانوا مسلمين والكنيسة الملعونة جرّتهم إلى المسيحية.
نظرت (حنّا) التي صارت عبدة في طريق آخر للخلاص والحرية، فصوبت سؤالها للفتى العبد الصغير في الفرقة صموئيل، قائلة:
- هل أنت سعيد بالمسيحية ؟
تلفت صموئيل يميناً ويساراً، ورد بصوتٍ لا يكاد أن يسمع:
- اسمعي يا أختي. . المسيحية الآن أعطتني الحرية. . ولا أريد أكثر من هذه الحرية. .
تتوالي قصص العبيد رجالاً ونساء في المنامة ، وتتشكل بين هروب وعتق وموت لا تخلو من مآس، فقد استيقظ الناس ليجدوا أنفسهم أمام كارثة حقيقية، الطاعون هذا الوباء الخطير جاء بدون حتى لحظة إنذار، جاء ليحصد أرواحاً وليجعل المقابر منتعشة والجنائز تسير وتسير حاملة نعوشاً لا تتوقف، كانت (أم الخير) إحدى ضحاياه وقد كشفت لـ(حنّا) في لحظة هذيانها الأخير، اسمها الأصلي ( أيبابا ) وتاريخ عبوديتها الطويل، وتخليها عن عذريتها بسبب حاجتها للمال في شبابها، لتشتري به برتقالاً وتفاحاً وموزاً وفواكه، لتذهب كالمجنونة وتنثرها على قبر أمها التي ماتت من الجوع. .
كان وباء الطاعون يحصد الأرواح، والمقتدرون يهربون كإسماعيل ابن نصري، وحيده الذي أرسله إلى فارس لينجو من الموت، والبعض يذهبون إلى المستشفى الأمريكي في المنامة الذي يوجد به مئات الأمصال، وتأخر بعضهم وزاد موتهم بسبب نداء وجهه شيخ كبير للناس، بعدم التطعيم لتعارض ذلك مع تعاليم الإسلام الحنيف، ودعاهم إلى الصيام لمواجهة هذا الوباء، ولما غصت المقابر بالموتى ذهبت فتوى الشيخ أدراج الطاعون نفسه. واضطر الحاكم البريطاني في البحرين الكولونيل ( روبنستون هاورد ) إلى كتابة تقرير سري إلى حكومة نائب الملك في الهند عن أوضاع الطاعون في البلاد، قال فيه: هناك شائعات مضحكة وسخيفة كثيرة في البلد نقول: إن بريطانيا والحاكمية البريطانية، هي من نشرت الوباء للتخلص من المسلمين وإحلال اليهود والفرس محلهم، وقد قمنا بتكذيب تلك الإشاعات فوراً وقمنا بتطعيم كل عربي، يأتي إلى الحاكمية كي نردّ على الشائعات السخيفة.
احتفظت رواية (ثُمن الملح) بالنسق الحكائي لها، وظل يتصاعد البناء عبر شخصية عبدة المتفردة والمتمردة، دون أن تسقط من حضور عبيد آخرين ، تمتلئ ملفات الحاكمية البريطانية بشكاويهم وعذاباتهم وأوجاعهم وظلم أسيادهم لهم ، وتمتد خارطة وجودهم ما بين دبي والكويت ومسقط والإحساء، ظل يرصدها يومياً مترجم الحاكمية الهندي المسلم عبد الصاحب، كلها مملوءة بالآلام والمصائب وطلب المساعدات الإنسانية، لتنظر إمضاء الكولونيل الحاكم البريطاني ( روبنستون هاورد ) لتنقذهم من جور وظلم أسيادهم ، وعندما تحرر إسماعيل أبن نصري من قسوة والده، تزوج في شيراز وأنجب طفلة جميلة واشتغل بتجارة السجاد، وهربت عائشة أمه من سجن زوجها بن نصري لتعيش في كنف والدتها العربية، وخرجت عبدة مطرودة من قصره لكنها دلت طريقها إلى الحاكمية البريطانية، لتمنحها ورقة الخلاص بعد متاهة طويلة، ليلوح لها بورقة العتق (بركات) الشاب الوسيم ابن المطوع الذي امتلك قلبها وجسدها، فكانت كالتالي:
( الدولة البهية الانكليزية
بأمر من حكومة صاحب الجلالة
ورقة عتق لكافة من يراها
وبعد فإن حاملة هذه الورقة هبده بنت عبد الله (عبدة) سابقاً، القاطنة في جزائر البحرين عمرها تخميناً 23 سنة قد صارت حرة كسائر الأحرار، فلهذا لا يكون عليها الاعتراض على حريتها والسلام.
حرر في البحرين 20 فبراير شباط 1909 م )، ولكن عبدة رددت في النهاية إلى ما أوحى رأي أفلاطون بهذا المعنى، أن حرية العبد في الداخل ولن تكون للذين لا يعرفون معنى الحرية، فقد راحت تردد في ضياعها النهائي لست سوى عبدة، لن تغير ورقة عتق تافهة بلا قيمة في شيء، وسوف أبقى عبدة على هذا الحال طويلاً.