سلمان بن محمد العُمري
في ندوة (دور القطاع الصحي في تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد)، التي عُقدت مؤخرًا في العاصمة (الرياض)، ووفق ما طرحه (بعض) الصحف، اتهم نائب وزير الصحة حمد الضويلع بعض شركات تصنيع الأدوية بتقديم رشاوى لأطباء ومسؤولي وزارة الصحة، وأن مصنِّعي الأدوية يلجؤون إلى ممارسات تعوَّدوا عليها، قد تكون مقبولة بالنسبة لهم، فيما يرى أنها تضارب صارخ للمصالح، وهي: انتدابات للمسؤولين والأطباء وإعطاؤهم تذاكر سفر!!
والأدهى والأمرّ هو وجود مسؤولين يمتلكون شركات ومؤسسات في النشاط نفسه؛ وهو ما عجّل بوزارة الصحة لوضع استراتيجية في مكافحة الفساد، بل تحديث مجموعة من أنظمتها الداخلية، وتفعيل العقوبات على المخالفين، بما يضمن تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد.
وعندما يكتب طبيب ما اسم دواء بعينه في (روشتة) العلاج فإنه بالطبع يعرف فاعلية هذا الدواء بالنسبة لحالة المريض الصحية؛ وبالتالي فمن حق هذا الطبيب أن يصر على هذا الدواء، ويحذر المريض من تناول أي أدوية بديلة. هذا هو الطبيعي والمنطقي والمفترض، لكن المسألة في الواقع أصبحت تحكمها معايير أخرى بعيدة تمامًا عن رسالة الطب ومهنة الطبيب؛ إذ تحوَّل بعضهم إلى سمسار لشركات الأدوية، أو في أحسن الظروف مندوب تسويق لمنتجات هذه الشركات!!
المسألة تبدأ في عيادات الأطباء؛ فبعد أن يوقع الطبيب الكشف على المريض، ويشخِّص الحالة، ويحدد العلاج، يقول وهو يمد يده بعلبة دواء إلى المريض: «لا داعي لأن تشتري هذا الصنف من الصيدلية؛ فلدي عينة منه، هي لك». ولا يسع المريض وهو يمد يده ليأخذ الدواء إلا أن يشكر الطبيب. بعدها قد يجد المريض نفسه مضطرًا لتكرار هذا الدواء مرة أخرى بناء على نصيحة الطبيب. ولأن (العينة) تقدَّم هدية مرة واحدة فقط يُفاجَأ المريض بارتفاع سعر هذا الدواء في الصيدليات، لكنه مضطر لشرائه؛ فما باليد حيلة. وتتكرر مرات الشراء، ولو حدث واشتكى المريض من ارتفاع سعر هذا الدواء ينصحه الطبيب بألا يفكّر في المال؛ فالمهم الشفاء، مؤكدًا له أنه أفضل دواء من نوعه لحالته. وهكذا، حتى إن المرضى باتوا يتندرون بأن هذا الطبيب لا يصف لمعظم مرضاه إلا هذا الدواء أو ذاك؛ فما هي العلاقة التي تجعل طبيبًا شهيرًا في تخصصه، ويحمل درجة الدكتوراه وزمالة كبرى الجامعات والمعاهد الطبية العالمية، يقبل بأن يعمل مروِّجًا لمنتجات شركة أدوية؟!
إن الإجابة عن هذا السؤال تتلخص في وجود مصلحة مشتركة بين الطبيب وشركة الأدوية؛ فالطبيب يحصل على عشرات العينات الدوائية التي يقدمها لمرضاه مجانًا، مبديًا من خلال ذلك تعاطفًا وتعاونًا مع المريض الذي يقدر هذا التعاطف جيدًا؛ فيشكر كرم هذا الطبيب ومهارته بين أصدقائه ومعارفه؛ فتزداد شهرته؛ وبالتالي عدد المرضى المترددين على عيادته أو المستشفى الذي يعمل به، وهي وسيلة دعائية فاعلة ومثمرة. وشركة الأدوية تستفيد من ذلك بزيادة مبيعاتها والترويج لمنتجاتها، ولاسيما أن ممثل الإعلان عن هذه المنتجات يحمل لقب طبيب.. لكن هل يقف الأمر عند هذا الحد؟
الوقائع تؤكد أن المسألة تتعدى ذلك. يروي لي أحد الأصدقاء أن طبيبًا كبيرًا وصف لابنته الطفلة دواء بعينه، وأخبره بأنه ضروري للغاية لحالة ابنته المريضة، على الرغم من ارتفاع سعره.
والغريب أن الطبيب الكبير دلَّه على الصيدليات التي تبيع هذا الدواء، مؤكدًا أنه لن يجده في كل الصيدليات نظرًا إلى ارتفاع سعره وقِلّة انتشاره.
وعندما ذهب هذا الصديق لشراء الدواء سأله الصيدلي: هل الدكتور فلان هو الذي كتب هذا الدواء؟ فاندهش والد الطفلة المريضة من معرفة الصيدلي باسم الطبيب، على الرغم من أن اسم الدواء لم يكن مدونًا في روشتة تحمل اسم الطبيب أو أي إشارة عنه. وعندما سأل الصيدلي كيف عرف ذلك؟ كانت الإجابة بأن هذا الطبيب يحصل على راتب كبير من الشركة المنتجة للدواء، بل يحصل على نسبة من كل عبوة تبيعها الصيدلية منه، هذا بخلاف الهدايا المادية والعينية، وغيرها من المكاسب!! والأكثر إثارة للدهشة والمرارة أن الصيدلي - ولسبب ما - أخبر صديقنا بأن السوق به أكثر من دواء له مفعول هذا الدواء نفسه، لكنه أقل سعرًا؛ لأنه إنتاج إحدى الشركات الوطنية، وليس مستورَدًا!!
إننا لسنا ضد أن يربح الأطباء أو شركات الأدوية، لكننا ضد أن تتحقق هذه الأرباح على حساب المرضى الذين قد يعانون كثيرًا لشراء مثل هذه الأدوية غالية الثمن، على الرغم من توافر البدائل الرخيصة التي لها المفعول نفسه.. وضد أن تتحول مهنة الطب إلى تجارة، وأن يتحول الطبيب إلى سمسار، يتاجر بآلام مرضاه.