تعجز الحروف، وتتوقف لغة الكلام عند الحديث عن سجايا وصفات الأمير سعود الفيصل - رحمه الله، فقد حمل من المؤهلات والمزايا ما جعله نجماً يشار إليه بالبنان، وحظي باحترام الخصم قبل الصديق، وبما جمعه من سمات قلَّما تجتمع لشخص، نجح في مزج السياسة بالأخلاق وابتعد بها عن مفهوم البراجماتية الجامدة، فكانت السياسة عنده أخلاقاً ومبادئ، مستمدة من الدين الحنيف، قبل أن تكون مصالح ومساومات.
جمع من الصفات الشخصية ما جعل العمل معه في وزارة الخارجية مطمحاً للكثيرين، لينهلوا من نبع علمه وخبرته وثقافته، مع ذلك وهو ابن الملوك، صاحب شخصية متواضعة تحفظ لها ذاكرة كثير من المحيطين به مواقف ولفتات وملامح، صبغت شخصيته ورسمت ملامح سعود الفيصل الإنسان قبل الأمير والوزير.
كان سعود الفيصل - رحمه الله - في رحلاته الخارجية يصر على الجلوس مع مساعديه على كراسي الطائرة وسطاً في الصالون المفتوح، حتى لو استغرقت الرحلة ساعات، رغم وجود غرفة نوم خاصة وصالون مغلق، وكان على سجيته يتناول طعامه معهم، ويمضي الساعات معهم؛ للعمل على ملفات رحلته الخارجية ومباحثاته، والتجهيز للمهمة التي تنتظره، ولم يشاهد يوماً تاركاً مقعده لدخول غرفة نومه المعدة والمجهزة له في الطائرة، لينال قسطاً مستحقاً من الراحة، بل كان السرير يستخدم لوضع ملابسه عليه فقط، رغم تعدد سفراته وطول المسافات، حتى إذا أدركهم النوم نام على المقاعد نفسها التي ينامون عليها.
وعلى الرغم من مرضه وآلامه الجسدية إلا أنه كان مواظباً على أداء مهامه على أكمل وجه وبجهد وحماس يغبطه عليه الآخرون، حتى إذا فرغ من العمل وقراءة الملفات والتقارير، لجأ إلى حل الكلمات المتقاطعة التي كان يعشقها، ويشتري مجلداتها من أشهر المكتبات العالمية، أو أمضى وقت فراغه القليل أمام جهاز الحاسب الآلي ليفاجئ الجالسين معه بتقرير عن التغير المناخي الناجم عن طبقة الأوزون مثلاً.
وكان - رحمه الله - عاشقاً للطبيعة العذراء، يرتمي بين أحضانها في إفريقيا سنوياً في إجازة لا تتعدى الأسبوعين، وعند عودته يتحدث بشغف شديد عن تفاصيل الرحلة، وعن سلوك الحيوانات وطباعها، وكان الجميع يستغرب جرأة سموه في الاقتراب من أسود الغابة لمسافة لا تزيد عن أمتار قليلة، وكان يرد قائلاً: إن مدى الاقتراب منها تحدده دراسة سلوكها ومدى معرفة وتوقع تصرفاتها ونواياها، وكل ذلك لا يغني عن فردك (مسدسك) في يدك، كما كان يقول -رحمه الله.
امتاز سعود الفيصل الإنسان بشدة الملاحظة والحساسية لأي موقف يمكن أن يفسر على أنه تعالٍ على الآخرين، أو خدش لكرامتهم، أو مساس بإنسانيتهم، ففي إحدى الرحلات لدولة إسلامية احتفى سفير المملكة بالأمير الراحل ومرافقيه في مأدبة عشاء، وكان أحد السعوديين من كبار السن يقدم للأمير القهوة العربية، فسأله عن عمله فأجابه أنه مدرس في المدرسة السعودية، فما كان منه إلا أن قال له بصوت جهوري إن سيد القوم خادمهم، وأوعز إلى السفير بأن يقدم القهوة بنفسه.
هذا التواضع تجلى في موقف آخر يدل على تواضع وإنسانية ولطف الأمير الراحل، حكى تفاصيله الإعلامي محمد الطميحي، فقد كان له موقف شخصي مع الأمير سعود الفيصل -رحمه الله، ففي أحد الاجتماعات خارج المملكة اقتنص الطميحي فرصة خروج الأمير من أحد الأبواب الجانبية بعيداً عن الصحفيين ووسائل الإعلام، واندفع نحوه بحماس، للحصول على تصريح تلفزيوني، وحينها وقف حارس الأمير الشخصي لمنعه بشيء من العنف، فما كان من سعود الفيصل إلا أن أمسك بذراع مرافقه وخاطب الطميحي بلطف - رحمه الله - قائلاً «اعذرني مستعجل»، في لفتة إنسانية فاقت الحدود.
لا تنتهي لفتات سعود الفيصل الإنسانية الرحيمة، ولا يتسع المجال لسردها جميعاً، لكننا ننتقي منها بعض الدرر، فخلال إحدى رحلاته للعاصمة البريطانية لندن، وعندما همَّ بصعود الطائرة للمغادرة، كان المطر ينهمر بغزارة والريح عاصفة والجميع يتعجل دخول الطائرة هرباً من المطر، إلا أن الفيصل التفت وسأل عن راكبي الدراجات النارية من الشرطة البريطانية، الذين فتحوا الطريق للموكب إلى المطار، وتوجه إليهم تحت المطر والأجواء العاصفة والأرض المنزلقة، ليصافحهم شخصيًا ويشكرهم على جهودهم، هكذا كان الراحل -رحمه الله.
كان سعود الفيصل لا يحب المديح، وكان إنساناً شديد التواضع إلى أبعد الحدود، وفي إحدى المرات تقدم إليه كاتب عربي بكتاب جمع فيه معظم تصريحاته وكلماته على مدار ثلاثة عقود، وتناول كلاً منها بشرح توثيقي إعلامي مقتضب، فكتب الفيصل إلى السفير رائد قرملي لإبداء الرأي، فردَّ بأن الكتاب ليس أكاديميًا أو علميًا لكنه مفيد للتوثيق والتأريخ، فوجه الفيصل بخط يده أنه لا يرى أي فائدة من نشر الكتاب، ليضع بذلك نهاية للموضوع.
وذات مرة اطلع سموه على مقال كتبه أحد الكتَّاب في صحيفة محلية تضمن كثيراً من المديح والإطراء لسموه وللأعمال التي يقوم بها، فأحال الأمير المقال إلى أحد مساعديه مع عبارة لافتة: «لشكره على أي حال، ولو أنه مبالغ، والمبالغ في المديح كالذي يذم».
كان سعود الفيصل يتعامل مع الآخرين بأخلاق الإسلام ونبل الفارس حتى مع خصومه، ففي أحد الاجتماعات العربية توجه وزير خارجية عربي كان نظامه في خصومة ضد المملكة إلى الأمير الراحل، قائلاً له: إن الأمين العام للجامعة العربية أبلغه أن الرئيس الأمريكي أبلغهم شفهيًا ببعض الأمور التي تخص دولته، وأن رئيسه كلفه بالتأكد من مصداقية الرسالة الأمريكية من سعود الفيصل دون سواه لعلمه بصدقه، فما كان من الفيصل إلا أن وجه بمهاتفة وزيرة الخارجية الأمريكية فورًا للتأكد بدقة من مضامين الرسالة الأمريكية قبل إجابة المسؤول العربي، هكذا كان حرصه وهكذا كانت مصداقيته وإنسانيته حتى مع الخصوم.
الحديث عن سجايا سعود الفيصل وملامح شخصيته لا ينتهي، فقد كانت كل دقيقة من حياته لدينه ووطنه، تسبقه أخلاقياته ومبادئه وإنسانيته، لذلك كان وسيكون دائماً محل تقدير الجميع حتى بعد رحيله، رحم الله سعود الفيصل، وستبقى مواقفه وإنسانياته ومضات خالدة مثلما خلد التاريخ مواقف وعبارات وحكم والده الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله.