للشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا قصيدة بديعة عن الانجذاب العاطفي المفاجئ بين المحبين، وعن وهْم: الحب من النظرة الأولى، وهي تمضي على هذا النحو:«إنهما واثقان أن مشاعر مفاجئة قد باغتتْهما.. ويعتقدان أن لا شيء قبل ذلك قد حدث بينهما.. لكنْ ماذا تقول الشوارع.. السلالم.. الممرّات التي التقيا فيها؟ ألا يتذكران؟.. ربما التقيا في باب دوّار ذات يوم وجهاً لوجه !..
ثمةَ: «عفواً» وسط الزحام.. أو صوت: «الرقم خاطئ» في سماعة الهاتف.. سيدهشهما أكثر أن المصادفة كانت تلعب بهما منذ وقت طويل!.. ربما قبل ثلاث سنوات، أو في الثلاثاء الماضي: كانت هناك وريقة طارت من كتف إلى كتف !.. من يدري؟ هل جمعتْهما كرة تائهة وسط حدائق الطفولة؟ هل استلقت اللمسة على اللمسة فوق المقابض والأجراس؟ أو كانت الحقائب متجاورةً في مستودعٍ ما؟ أو كان هناك حلم مماثل ذات ليلة لم يلبث أن انمحى فور الاستيقاظ؟.. كلّ بداية هي استئناف لا غير، وكتاب الأحداث مفتوح على المنتصف دائماً !..» .
تومئ هذه القصيدة إلى ما يمكن أن نسميه: الأُلفة الغائمة القديمة التي تسرّبتْ من الذاكرة الواعية؛ ولكنّ أثرها العميق باقٍ في الروح! وهذه الأُلفة النفسية ليست محصورة في العلاقة العاطفية المشبوبة التي يعرفها العشّاق، بل هي أوسع من ذلك بكثير، فالأرواح جنود مجنّدة، وكثيراً ما تقابل أشخاصاً في الحياة «لأول مرة» ؛ ولكنّ كلّ ذرّة في كيانك تقول لك: إنك تعرفهم منذ زمن، وإنك التقيتَ بهم قبل هذه اللحظة.. أين؟ ومتى؟.. ربما نسي الراوي، ربما غفل الحاكي، ربما سقطتْ تلك اللحظة من عدّاد الزمن؛ ولكنها بقيتْ ناضجةً لم تسقط من أغصان الروح!
شخصياً.. لا أُحصي عدد المرات التي قابلتُ فيها أشخاصاً عَرَضاً في مجلس، أو في الشارع، ثم سألتُ نفسي: ألا أعرفهم؟.. شيءٌ ما أسرني وجعل روحي تبقى هناك عالقةً بيني وبينهم: ربما تعليق ساخر، أو ملاحظة ذكية، أو ابتسامة دافئة، أو لطف بالغ في ظرف عصيب.. ثم تغادرهم، وكأنما تغادر منزلك القديم، أو طفولتك الغاربة.. معزِّياً نفسك بأنك قد تعود فتلتقي بهم في يوم آخر، أو في مكان مختلف، وربما -من يدري- في حياة أخرى وعمر جديد!
أذكر أني خرجتُ مرةً من الصيدلية، فوجدتُ سيارتي محتجَزةً من سيارة أخرى أوقفها صاحبها ومضى، بحثتُ عنه في المقهى المجاور، فإذا هو شاب يافع كان يتناول القهوة بكلّ أريحية مع أصحابه، سألتُه بغيظ مكتوم: سيارتك في موقف خاطئ، وأنت جالس تشرب القهوة؟.. الشاب لم يردّ حياءً، لكنّ أحد الجالسين على المقاعد المجاورة التفتَ إليّ وقال: نعم.. اجلدهم!.. أعجبتني طرافة التعليق وأربكتْني في الوقت نفسه.. ربما لأن أسلوبه في نطق العبارة كان يحتمل أكثر من معنى، فلا تدري أهو معك أم ضدّك؟.. ومضيت وأنا أتساءل في الطريق سؤالي الأثير: هل أعرفه؟..
قديماً قال سقراط -في استشراف روحي عميق-: إن المعرفة تذكُّر ! أي أن كلَّ ما «نكتشفه» في حياتنا ليس سوى إعادة تعرُّف لما سبق أن عرفناه قبل أن نُبصر هذه الحياة !.. كما تحدث كارل يونج عن «النماذج العُليا» المترسِّبة في أعماق البشر، والمتحدِّرة إلى وعيهم الباطن من تجارب أجدادهم الموغِلة في القِدَم.. هذا يعني أن هناك ارتباطات روحية تتجاوز قدرات حواسنا المادية على الإمساك بها، وأن التداعيات المنبثقة منها أوسع من حدود ذاكرتنا الفردية الضيِّقة، ربما من أجل هذا المعنى نجد الشعراء -وهم الأساتذة الحقيقيون للفلسفة- كثيراً ما يقرنون بين مشاعرهم الذاتية، ونبض الطبيعة من حولهم؛ وكأن نفوسهم ليست سوى مِرآة صافية تنعكس فيها تجليات الكون الواسع الأرجاء، وهنا تحديداً تذوب الحدود الوهمية الفاصلة بين الأشياء والأمكنة والأزمان.. هنا: حيث لا بدء.. ولا منتهى!
يقول الشاعر الأمريكي والت ويتمان: «حين أزهرتْ أشجار الليلَك حديثاً في أفنية البيوت، وأرخى النجم الكبير سدولَه ليلاً غربيّ السماء.. غمرني الحزن!.. وسيغمرني دوماً مع كل عودة للربيع.. آهٍ أيها الربيع الذي تعود دائماً.. إنك ستجلب لي معك ثلاثة أشياء: أزهار الليلَك اليانعة، والنجم المنسدِل في الغرب، وذكرى ذاك الذي أحببت..».
- د. سامي العجلان