تشكلت لديه الغربة بداية في (الزبير) القرية المنسوخة عن بيئة نجدية، تلك القرية التي أسسها – كما يقال – السلطان العثماني سليم بن سليمان، وأقام بها مسجد وضريح للصحابي الجليل الزبير بن العوام، و كانت قبل ذلك مناخاً لنوق وجمال قوافل ورواحل تجار نجد خاصة والجزيرة العربية عامة، فعرفت (المربد) حيث تنابز الفرزدق وجرير بأشهر وأروع قوافيهم، وأعيد إحياء ذكراه في مهرجان لأشهر شعراء وأدباء العرب المعاصرين، ولما قتل الزبير بن العوام بعد معارك الفئة الخارجة على الخلافة، كانت البصرة التي اشتق أسمها من وصف عمر لها بقوله (هذه أرض بصرة) بعد ما وصفها له مؤسسها عتبة بن غزوان بأنها أرض منافع و قصباء، ويعني أسمها في اللغة : الأرض الغليظة ذات الحجارة البيضاء، ومدينة أشهر من أن تعرف، فهي مسقط رأس علم النحو علي يد أبي الأسود الدؤلي، ومعجم الفراهيدي، وفقه الحسن البصري، ومعتزلة ابن عطاء والنظام، وتراجم ابن المقفع، وقوافي ابن برد وأبي نواس ،وبلاغة الأصمعي التي نافس بها بلاغة أختها (الكوفة) فقيل إنها تفوقت عليها ببديع الألفاظ فيما كان للكوفة السبق في عمق المعانى، تلك هي التخوم والمرابع التي احتضنت مسقط رأسي في قرية الزبير، فقد وعيتُ لأجد نفسي..
هكذا يقدمُ صديقي وأستاذي الروائي / إبراهيم الناصر الحميدان، بطاقة هوية في تشريح ل ( غربة المكان ) والطفولة، ويختم بكتابة مذكراته الصريحة والمدهشة، رحلة لسلسلة نشاط كتابي سردي كثيف، يمتد ما بين كتابة الرواية والقصة القصيرة، إذ يعد رائداً في الكتابة السردية ، وظل وفياً لهذا الجنس الكتابي، لأكثر من نصف قرن من الزمان، ولازم أجيالاً متتالية، وظل في سباق المسافات الطويلة فارساً، ينافس ويجدد ويحنو بتواضع الكبار وعبقرية المبدع.
هنا – سأدع النتاج السردي الضخم لكاتبنا في مجاله للدارسين، وسأمضي مع السطور الأخيرة له من سيرته الذاتية رحمه الله، إذ يواصل تشريح مكان الطفولة المبكرة، ويصف أهل قرية – الزبير – بأنهم أبوا استبدال نمط حياتهم المعتادة في نجد، وأغلقوا الأبواب في وجه أي غريب حاول أن يقتحم اسلوب حياتهم، والقرية – شأن مدن نجد – مسورة من كافة الجوانب، ويصعب على الدخيل اقتحام الدروب التي تحتشد بالمساكن، وقليل من فتياتها يتعلمن القراءة والكتابة، والمرأة عندهم ليس لها أي اعتبار إنساني، إنما خلقت لخدمة الرجل، ومنحه المتعة متى احتاج إليها، وقد نشأ في هذه – القرية – وتجول بين أزقتها، وأحب الدنيا من خلالها، ولم يسأل : ما هي جدوى الحياة لنا كبشر، إذ انفصلنا عن مجتمعنا الأصلي، واكتفينا بأن يدعونا أهل البلاد ب (النجادى !)، حتى دخول القوات الإنجليزية إلى العراق لملاحقة القوات العثمانية المهزومة، حليفة هتلر بعد الحرب العالمية الثانية، فحدث الاختراق الخارجي للقرية، فزعزع علاقة الناس واضعف كلمتهم؟
ويذكرُ الأستاذ الحميدان رحمه الله، أن الحب الذي اقتحم قلبه في الثامنة عشرة من عمره، فتضافر الحب مع حكايات المسنات الليلية، مثل حكاية أبو زيد الهلالي، وعنترة، ونساء الخلفاء العباسيين والأمويين فتلهب خياله، وكانت فاتحة لقراءة جرجي زيدان، وأدباء العراق من الروائيين، لينطلق من (الغربة) الصغرى في تلك القرية النائية، ليقرأ الكتب المترجمة لغوركي وبلزاك وتولستوي وغيرهم، فامتزجت لديه الثقافات المتنوعة والسياسة، وشكلت له رؤية إلى أفق عالمي لاحقاً، تناسب الكتابة الواقعية التي يميل إليها، ليأتي التعبير متاحاً عن ذلك التأزم الخانق كما يصفّ..
وكان الطالب إبراهيم الناصر الحميدان، قد انتقل مع عائلته إلى مدينة البصرة، ليدرس في مدرستها المتوسطة، فعدت أول نقلة فاصلة في حياته، وتغير عليه كل شي، وتوزعت اهتماماته إلى عدة اتجاهات، فالمدينة التي بها دور للسينما ومقاهي للضياع، والمدرسة التي بها اختلاط مع طالبات حسناوات، والمكتبات التي يتوفر بها كتب بحر العلوم والسياب والبياتي والجواهري، والشوارع التي بها مظاهرات، تهتف بسقوط الاستعمار وإسرائيل والخونة، كادت ان تختطفه إلى غياهب السجون، وجعلته طالباً فاشلاً في نهاية العام، يبحث عن طريق جديد، يجعله يوفي بوعده لحبيبته، ويتزوجها وهو الفقير بسبب تراجع تجارة والده.
لكن الطالب الذي توجه إلى الظهران، يحمل افكاراً كثيرة يأتي في أولوياتها، جمع المال ليحظى بقلب حبيبته التي تركها تنتظره، والعمل في شركة أرامكو حيث صادف أول فشل له، وإذ أفضل تناول (الغربة المكانية) من سيرة أستاذنا الروائي إبراهيم الناصر الحميدان، وتأجيل تفاصيل حياته الكتابية إلى الحلقة الثانية القادمة ، والبقاء هنا - في مرحلة التكوين الأولى في هذه الحلقة، وتركيز الضوء على البيئة الاجتماعية المتماسكة، القادمة إلى هذه الحياة من وسط نجد، فقذفت بها أحوال بائسة، لتستقر في هذا المكان، ليؤسسوا قاعدة صلبة للعادات والتقاليد النجدية، فكتبتّ سجلا حافلاً في صفحاته، لتحكي تلك الهجرات من قسوة وظلم الإنسان، ومداده تاريخ حفظت مخطوطاته في مكتبات، سجلها أبناء وأحفاد من أرّخوا لتاريخ نجد، فتاريخ عثمان بن بشر الشهير المحفوظ في المتحف البريطاني بلندن، إنما أخذت مخطوطته الأصلية من مكتبة أحفاده بالزبير، وما ورد من إنقاذ (حميدان) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحمايته من حرارة الشمس والعطش، إنما كان (المنقذ) أحد اجداد كاتبنا الأستاذ الحميدان.
ويحكي إبراهيم الناصر الحميدان في تفاصيل الغربة، ويذكر أن ارتباط تلك الكتلة المجتمعية، لم يجردها من ارتباطها بوطنها، ويدلل على ذلك بغضب محافظ البصرة لما احتد، حينما رفع أهالي الزبير الأعلام والبيارق السعودية في اول زيارة، يقوم بها العاهل السعودي الملك عبد العزيز لقريتهم، وكان موكبه من سيارات استعارها القنصل السعودي من كبار التجار النجديين، واستطاع النجديون أن يبرعوا في الصفقات التجارية، ويحكموا سيطرتهم على الأسواق التجارية، واستيراد البضائع من كافة انحاء العالم.
ويمر الأستاذ الحميدان مروراً عابراً، ليروي تفاصيل قليلة عن البدايات التي صادفته، وتّنقل خلالها بين وظائف كتابية وتحريرية في الشركات، فكانت غربة شاقة وقاسية، جعلته يعيش ظروفاً متغيرة، ويعايش شرائح متنوعة تسكن في حيين مختلفين، أحدهما فخم للعمال الأجانب، تتوفر له وسائل مريحة وذات مستوى رفيع ، والآخر يتشكل من أكواخ خشبية فقيرة للعرب، ما لبث أن اشتعلت النار في بنيانه الخشبية ، لتحيله إلى رماد وسط فرح سكانه، ولم يتخل كاتبنا وسط هذه التحولات القاسية عن هوايته الأدبية، فقد كان يقرأ كل كتاب يقع بين يديه، ويكتبُ الخواطر الخفيفة التي تكونت كإرهاصات، لقصص تمخضت عنها في المرحلة القادمة، وارتبط آنذاك بصحيفة الخليج العربي والمسئول عنها الأستاذ عبد الله شباط، فكانت بداية نقطة تعاون وانطلاق، جذبته إلى الصحافة في السنوات التالية بصورة أوسع.
الإخفاق كان عنوان العودة الأولى إلى الزبير، فقد جاء الحريق الذي هب على حي العمال العرب، وجاءت النار على ما تم ادخاره لتنفيذ الأحلام، وأولها الوعد الذي ربطه بحبيبة كانت تنتظره، فكانت أول من أصابتها الدهشة، وقد ضاع تحصيل سنة كاملة، لم يجد ما يعود به إلى قريته بهدايا متواضعة، فكانت النكسة الأولى على صعيد ذاتي، إذ لا تعلم الحبيبية عما أصابه في ذلك الحي البائس، فغضبت وأقسمت بان تبتعد عنه نهائياً، واكتفى بدعاء الوالدة ليعوضه الله خيراً، وعندما هدأ جو الانفعال عاد إلى المنطقة الشرقية، ليبدأ رحلة جديدة..
يتبع.