الشعار الشهير الذي جاء في مقدمة القانون الأساسي للتعليم (غاكوسيه-gakusei) عام 1872م في عهد نهضة اليابان- ميْجي (1868-1912م) الذي ينص على أنه لا يجب أن يوجد بيت لا يدخله التعليم، ولا يجب أن يوجد بيت فيه فرد بدون تلقي التعليم، يُعبر عن رؤية حكومة ميجي الجديدة -آنذاك- التي أعلنت منذ البداية في ميثاقها شعار طلب والتماس المعرفة من شتى أنحاء العالم من أجل تقدم الدولة وترسيخ دعائمها على أسس علمية.
وعندما بلغت نسبة الالتحاق بالمدارس خمسين بالمائة، تقرر أن تصبح الأربع سنوات الأولى من التعليم تعليمًا إلزاميًا، وذلك في عام 1886م. ومع انتشار التعليم بين عامة الشعب، خشيت حكومة ميْجي أن تزداد نسبة التعليم والمعرفة والوعي بين الشعب على حساب الانتماء والوطنية؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى ظهور تذمر وتظلم من الطبقات الفقيرة تجاه الحياة والنظام الجديد للدولة، فكان على الحكومة الجديدة أن تقوم بتصفية الانتماءات الطبقية الإقطاعية، والحفاظ على الدولة من الإمبريالية الغربية، وشحذ الحس الوطني والروح الوطنية، والمبادئ الأخلاقية، وتنمية الشعور بالدولة القومية ووحدة الأمة. فأصدرت في عام 1890م (عام 23 من عهد ميْجي) مرسوم التعليم الإمبراطوري الذي بصدوره أصبح التعليم داخل منظومة نظام الدولة الإمبراطورية اليابانية بشكل كامل، وأصبحت المدرسة مؤسسة تعليمية تغرس أيديولوجية الولاء بشكل عام، والولاء للإمبراطور والنعرة الوطنية بشكل خاص، وأصبحت قضية التعليم تحت مظلة الإمبراطور والدولة. والولاء هنا هو تمازج العلاقة بين مفهوم العام ومفهوم الخاص، أي تفاني الخاص من أجل العام لدرجة التضحية بالنفس من أجل العام أي الوطن إذا استدعى الأمر ذلك. وقد تم توزيع هذا المرسوم الإمبراطوري على المدارس ليحفظه التلاميذ عن ظهر قلب، بصياغة محتواه على شكل نشيد ليسهل حفظ معانيه. وأدخلت الحكومة مقرر التربية الأخلاقية لتعليم الأخلاقيات الواردة في هذا المرسوم الإمبراطوري الذي يدعو إلى حب وبر الوالدين، حب الإخوة والأخوات وتعاونهم معًا ونجدة بعضهم البعض، حب الزوجين بعضهما لبعض وحل مشاكلاتهما بالحب والمودة، مدّ يد الحب للآخرين، التواضع والاعتدال، عدم التكاسل والاجتهاد في تحصيل العلم، الولاء في العمل، السعي للتعلم والمعرفة، تنمية وصقل الشخصية الخلقية، التفاني وبذل قصارى الجهد من أجل المجتمع، احترام القانون والمحافظة على النظام، المبادرة لنجدة الوطن والتضحية من أجله ومن أجل إحلال السلام والأمن فيه في حالة الطوارىء والأزمات.
واستغلت الدولة مبدأ المركزية في تحديد الكتب الدراسية وإضافة ما تراه من محتوى مناسب لغرس قيم الولاء وغيرها من قيم المرسوم الإمبراطوري، وكذلك حذف المحتوى الذي تراه غير مناسب من الأفكار الغربية التي تنادي بالحريات الفردية والثورات والحركات الشعبية. ولم تكتف الحكومة بمقرر التربية الأخلاقية فقط لغرس الولاء، بل استخدمت مقرر التاريخ للتأكيد على قدسية الإمبراطور وأرض اليابان التي أسسها أسلاف الإمبراطور، وكذلك التأكيد على أنها دولة تتسم بطابع أبوي أو أسري، يعتبر فيها الإمبراطور بمثابة الأب الروحي لجميع أفراد الشعب، ومن هنا الولاء للأسرة الصغيرة الخاصة، وكذلك الولاء للإمبراطور والوطن والعام. وهكذا، فإن الولاء الرأسي من الصغير تجاه الكبير، بالإضافة إلى الانسجام الأفقي بين أفراد الشعب، يمثلان ثقافة تقليدية موروثة أعادت تشكيل وبناء اليابان. ومن خلال هذا التعليم نشأ حب الوطن لدى الفرد اليابانى، كما نشأ لديه وعي بالتفرد بصفته يابانيًا ما أدى إلى تقوية أواصر القوة والتعاون بين الشعب الياباني. وهكذا انتقلت الحضارة والعلوم الغربية إلى اليابان من خلال التعليم، مع غرس مفهوم الولاء للدولة والإمبراطور والإخلاص للوطن، وجعله قادرًا على الإحساس بمسؤولياته نحو وطنه، والتفاني من أجله، والعمل على رقيه وتقدمه.
ولكن في المقابل، كان من أهم سلبيات هذه الأيديولوجية أن أدت باليابان إلى طريق الدولة الإمبريالية التوسعية التي توسعت على حساب الشعوب والدول المجاورة، ما أدى في النهاية إلى هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وخضوعها للاحتلال الأمريكي (1945-1952م). وبعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء الاحتلال الأمريكي لليابان، أبقت اليابان على قيم الولاء، ولكنها عملت على تنمية السلوكيات والآداب العامة للفرد من خلال محتوى التربية الأخلاقية خاصة وبقية المقررات عامة، ووجهت تعليمها وجهة اقتصادية سلمية بعيدة عن النعرة الوطنية الجارفة إبان عهد ميجي.
من هنا، لا بد من الإدراك القوي الجيد لوظيفة المدرسة في غرس الانتماء والولاء والمواطنة ومختلف القيم الرفيعة المطلوبة لرقي المجتمع وما يعني ذلك من إخلاص للوطن، وجعلها سلوكًا ينمو مع النشء في المدرسة وتصحيح سلوكيات أفراده، فلا بد من العودة للمدرسة لغرس هذه القيم في نفوس النشء، وقبل ذلك لا بد من صياغة وثيقة واضحة تمثل دستورًا يضبط العملية التعليمية، باستثمار مخزون القيم السليمة المعتدلة في التراث، وتفعيل أطر ثقافية في العقائد الدينية والموروث الثقافي والحضاري للمجتمع، تقوم الدولة بتطبيقه على كل المدارس في ربوعها بما في ذلك التعليم الأهلي والخاص، وذلك لضمان مخرجات تعليمية واحدة متجانسة تدين بالانتماء والولاء للدولة، وتسهل مهمتها في تدريب أبناء الشعب حتى يفهم كل فرد واجبه بصفته مواطنا تجاه وطنه، فمن جهة حماية أمن الوطن والدفاع عنه، والحفاظ على ممتلكاته وبيئته، حيث إن الوطن هو بمثابة البيت الكبير للمواطن، ومن جهة أخرى، حماية المواطن نفسه وتحصينه من الأفكار المتطرفة، وشعوره كذلك بالاعتزاز والفخر بالانتماء لوطنه، وهنا لا يكون غرس وترسيخ هذه القيم بشكل نظري، ولكن بتطبيقها عمليًا وتحويلها إلى سلوك تطبيقي، من خلال مختلف الأنشطة المدرسية، وإدخال مفهوم العمل التطوعي داخل وخارج المدرسة؛ حيث إن هذه المفاهيم إن لم تتحول إلى سلوك تطبيقي، ستظل هذه القيم مجرد شعارات ومعارف ومعلومات فقط تتكدس بها عقول الطلاب، وتُحفظ ولا يظهر تأثيرها على الفرد. وللحديث بقية إن شاء الله.
- أ.د. شهاب فارس - كلية اللغات والترجمة جامعة الملك سعود