ربما أن الصورة الذهنية العالقة في ذهن الكثير من الناس عن الحرية هي الصورة التي تمثل الحرية الجسدية، وتحرر الجسد في محيط مفتوح لا تحكمه القضبان، ولا تحيط أطراف الجسد أغلال القيود. تلك الصورة لم تتكون بين يوم وليلة، إنما شارك في تكوينها النظام الثقافي الذي خضع له العالم العربي عبر نصف قرن على الأقل، حيث كان للإعلام نصيب الأسد من خلال نقل ذلك النظام للناس حتى تشربت منه العقول وتكونت تلك الصورة.
لقد كانت الصورة الأولى لرسم الحرية على شكل حرية الجسد فحسب هي ما تم نقله عبر الإذاعات وأجهزة التلفاز، والصحف، عن الاحتلال الإسرائيلي الوحشي لدولة فلسطين وذلك بعد حرب 1967 م حين انتحرت الإنسانية وعادت البربرية ومعها الهمجية والعبودية واستضعاف الضعفاء وقمعهم للوجود مجدداً بعد أن ظن الكثيرون أن تلك العادات قد انتهت وأن الزمان قد أكل عليها وشرب واستلقى على ظهره بعد تجشؤ ونام!
فمن ينسى كل تلك اللقطات التي بثتها القنوات التلفزيونية والصحف من شوارع فلسطين والجنود الإسرائيليون يقتادون الشباب الفلسطينيين الذين خرجوا من بيوتهم لينافحوا عن حرية دولتهم واستقلالها من أيدي جنود الاحتلال الغاصبين! ليس ذلك فحسب، بل إن الصور ظلت تتلاحق عن عبث الجنود الإسرائيليين بحقوق الشعب الفلسطيني واستباحتهم لحرياتهم، من خلال دخولهم للمنازل واقتياد الشبان أحياناً والأطفال في أحيان أخرى، وهم مكبلون بالأغلال، بل وضربهم بوحشية لا حدود لها، ودون أي أسباب أو مبررات كما بثت نشرات الأخبار!
ومن ينسى صورة الطفل محمد الدرة وهو يحتمي بظهر أبيه الذي ظل يستنجد ويشير لجنود العدوان طالباً منهم وقف إطلاق النار، وظل على تلك الحال حتى لفظ أنفاسه هو وأبوه الذي لم تسعفه إشاراته ليوصل رسالة السلام والحرية لأولئك الجنود المتلهفين للدماء!
تلك الصور رسمت شكلاً في ذهنية المتلقي عن حرية الجسد بطريقة لا يمكن تبديدها بسهولة، أو على الأقل إدراج صورة أخرى معها، إذ لم ينته المثقفون بعد من تصوير صورة أخرى للحرية تسمى حرية العقل حتى جاء التدخل الأميركي في بغداد، ليعزز من ثبات تلك الصورة النمطية (النسقية) في الأذهان عبر انتشار الجنود الأمريكان في شوارع بغداد وعبر تلك الصور المسربة التي تناقلتها أجهزة الجوال عبر البلوتوث من سجن أبو غريب والقمع الوحشي للحرية الجسدية من خلال القضبان والأغلال أوحتى التعذيب الوحشي!
لقد آمن الكثير من الناس وأنا واحد منهم بأن ذلك القمع ليس إلا شكلاً من أشكال فقدان الحرية، وأن الحرية تكمن أيضاً في الحرية العقلية، أوكما يقال في الحرية الفكرية، لذلك فإن القارئ في أدب السجون، وخاصة فيما كتبه العرب من روايات وتصورات عن السجناء يظهر له بوضوح كيف أن المثقف العربي مؤمن بأن حرية فكره أهم لديه بكثير من حرية جسده! وأن هناك الكثير من المثقفين قد يناضلون من أجل أن يمنحوا حرية التفكير والتنظير والقول، وذلك في تقدم واضح على حرية الفعل.
تقول مليكة أوفقير في روايتها السجينة: «إني لأرثي لكل هؤلاء البشر الذين يعيشون خارج قضبان السجن، ولم تتسن لهم الفرصة ليعرفوا القيمة الحقيقية للحياة!» ذلك التصوير الذي نقلته الكاتبة لا يعبر إلا عن حالة واحدة، تكمن في أن الحياة هي حياة العقل، والحرية هي حرية التفكير، وهذا ما صوره أيضاً الطاهر بن جلون في روايته تلك العتمة الباهرة، حيث إن الرواية تحدثت عن قصة حقيقية لمن أمضى جزءاً كبيراً من حياته في غرفة سجن تشبه الحفرة، خالية من الإضاءة والتهوية الجيدة، لكنه وجد الضياء المنشود في عقله المتأمل.
إن ذلك التصويرالجديد لمفهوم الحرية، يجعلنا نعيد النظر في المفاهيم والتكوينات الذهنية عن معنى الحرية، دون أن ننفي الأهمية المعنية لحرية الجسد. والعلاقة الثنائية المتناغمة بين الحريتين الجسدية والعقلية.
- عادل بن مبارك الدوسري
البريد الالكتروني: aaa-am26@hotmail.com ** تويتر: @AaaAm26