اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
منذ اندلاع الثورة الإيرانية قبل ما يقارب أربعة عقود، والنظام الثوري في إيران لا يجد حرجاً من التصريح بتصدير ثورته ونشر مذهبه، متبنياً مشروعاً طائفياً، وجاعلاً من نفسه مسؤولاً عن التشيع وتعود إليه مرجعيته، كما أنه لا يخفي نزعته الطائفية ومطامعه التوسعية وسياساته العدوانية تجاه جواره العربي، واستمر على هذا المنوال مصعداً من مشروعه ومتخذاً من الشعارات الخادعة غلافاً يغلف به ممارساته على نحو استطاع من خلاله الجمع بين استخدام الوسائل الناعمة والأساليب العنيفة، حتى وصل إلى ما وصل إليه من زراعة أذرع له في الدول المستهدفة، محوّلاً محيطه الشيعي الذي يمثل العراق وسوريا ولبنان إلى دائرة تمتد إلى اليمن.
وعلى الطرف المقابل فإنَّ الدول العربية الواقعة في دائرة الاستهداف ومجال التربص، بعضها مغلوب على أمره بسبب أنظمتها وتنظيماتها التي استبدلت هويتها الوطنية وقوميتها العربية بانتماء تعسفي ومشروع طائفي، ارتمت بموجبهما في أحضان القومية الفارسية، والبعض الآخر يتجاهل ما يراه ويسمعه راكضاً وراء سراب الأمنيات الخائبة والنوايا الكاذبة التي يتطلع عبرها إلى علاقات متوازنة وحسن جوار مع عدو أزلي أبدي ونظام فاشي، يرعى الإرهاب وغايته تبرر وسيلته، ويجيد القائمون عليه النفاق السياسي وتبادل الأدوار بشكل لم يعد ينطلي على أحد، منطبقاً على الطرفين قول الشاعر:
تلقى السفيه على من لا يسافههُ سيفاً
ويخشى من الأقوام مَنْ جهلا
وعلى هذا الأساس ونتيجة لما جرّه النظام الباطني الإيراني على المنطقة من فتن طائفية وحروب مذهبية مزّقت شعوبها واستباحت أوطانها، بشكل أصبحت معه الأمة مهددة في وجودها ومستقبلها، فإنَّ كل حر شريف من أبناء هذه الأمة ضاق ذرعاً بهذه الهجمة الصفوية الفارسية الشرسة التي تستهدف الأمة في دينها وهويتها ووجودها، ولم يعد بعد ذلك في قوس الصبر فسحة للانتظار، ولا إلى غير المواجهة من خيار بعد أن طفح الكيل وبلغ السيل الزبى.
وفي ظل هذا التحدي والواقع المتردي اتخذت المملكة قرارها بخوض الحرب المفروضة عليها، وانطلقت عاصفة الحزم لتأمين حدودها ورفع الظلم عن الشعب اليمني وحكومته الشرعية، وتشكّل التحالف العربي لمواجهة المد الصفوي ودحر المشروع الطائفي اللذين يهددان أمن الجزيرة والخليج والأمن القومي العربي واعتبار هذا التحالف نواة لأي تحالف أكبر، وقد قال الشاعر:
إنما العيش أن تكون جريئاً
ليس ترضى الحياة غمراً ذليلاً
والواقع أن قطع الطريق على النظام الإيراني في اليمن وكبح جماح مده الثوري، ولجم مخططه التدميري في هذا البلد، يُعدُّ خطوة تحوُّل غير مسبوقة في التعامل مع هذا النظام، هذا التحول الذي بقدر ما صنعه أبناء اليمن بقدر ما يمثل ثمرة من ثمار حملة عاصفة الحزم وعملية إعادة الأمل، وما ترتب عليهما من نجاحات عسكرية وسياسية، تلك النجاحات التي رسمت للأمة مسارها وأعادت إليها شيئاً من اعتبارها من خلال الحضور المؤثر في المشهد العسكري والسياسي بعد أن كانت مغيّبة لسنوات طويلة، وكما قال الشاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ورغم ما يبدو في الظاهر من وجود شبه إجماع عربي على أن إيران دولة ذات طبيعة عدوانية وسياسة توسعية في المنطقة، إلا أن بعض الدول العربية متردد في اتخاذ موقف موحّد وحازم ضد إيران، ومرد ذلك يعود إلى ما يعانيه النظام العربي العام من التفكك وتغليب النظرة القطرية الانعزالية على النظرة الإنمائية الكلية الجامعة المتمثلة في الانتماء القومي العربي، وتعود أسباب ذلك إلى تراكمات الماضي التي زرعها الاستعمار من جهة، واتساع الفجوة بين الأنظمة الحاكمة والشعوب من جهة ثانية، وخروج الأقليات عن النسيج الاجتماعي وضعف السيطرة عليها وانفلاتها من جهة ثالثة، والعجز عن إنشاء منظومة أمن قومي متكاملة من جهة رابعة، وعدم القدرة على التكيف مع المتغيرات والفشل في مواجهة التحديات من جهة خامسة، والتدخلات الأجنبية من جهة سادسة، وعدم وجود استراتيجية عربية فاعلة وشاملة من جهة سابعة، وغياب الجامعة العربية وعدم تفعيل مؤسساتها ومعاهدة دفاعها المشترك من جهة ثامنة.
والمملكة لم تترك طريقاً مشروعاً إلا طرقته ولا وسيلة إيجابية إلا استخدمتها في سبيل إيجاد علاقة متوازنة مع إيران، تقوم على حسن الجوار والاحترام المتبادل، بعيداً عن الممارسات الطائفية وإثارة الفتن والقلاقل ذات الدوافع المذهبية والسياسية والعرقية، ولكن نظام الملالي بقي رهين نسبه المصطنع ونظرياته الثورية وخزعبلاته الظلامية ونزعته الشعوبية والعنصرية التي يتخذ منها جسراً يعبر من خلاله للتدخل في شؤون دول المنطقة وتأجيج الطائفية فيها، وجرَّها إلى مستنقع العنف ووحل الاقتتال، الأمر الذي فرض على المملكة انطلاقاً من مسؤولياتها الدينية والوطنية والقومية أن تسخّر جميع إمكاناتها السياسية والاقتصادية والعسكرية للتصدي لهذا المد الصفوي والعدوان الفارسي مثلما حصل في البحرين، وكما هو الحال في اليمن وسوريا نزولاً عند المسؤوليات العظام والمهام الجسام التي وكلت إليها من قَبِل محيطها العربي والإسلامي.
وقد حسمت المملكة أمرها وجعلت من أهدافها الدينية والوطنية والقومية قبلة لها، مقتنعة بأنه لا جدوى من أي تفاوض مع النظام الإيراني طالما هو يمارس ممارساته العدوانية، ويتدخل في شؤون الدول العربية، مطالبة إياه بتغيير سلوكه على الأرض والابتعاد عن كل ما من شأنه الإخلال بأمن الدول المجاورة وزعزعة استقرارها بما في ذلك الشحن الطائفي والتعصب المذهبي والتحريض على العنف، وإذا ما استمعت إيران إلى صوت العقل وعادت إلى رشدها وكفّت عن غيها، قارنة الأقوال بالأفعال فالتفاوض هو أفضل السبل لحل المشكلات وتجنب الصراعات.
وإذا كان النظام الإيراني طيلة أكثر من ثلاثة عقود لم تثنه العزلة الدولية المضروبة حوله، ولم تردعه العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه عن تصدير ثورته ونشر مذهبه، وكذلك دعمه الإرهاب ورعايته له وإثارة القلاقل والفتن والحروب المدمرة في عدد من الدول العربية، واعتبار بعض دول الجوار ضمن مجاله الحيوي، فما الذي يثنيه إذا ما خرج عن العزلة ورُفعت عنه العقوبات، مستنداً إلى الاتفاق بينه وبين القوى العظمى حول ملفه النووي الذي وفّر له اعترافاً دولياً ببرنامجه النووي، وجعله يتحرك بحرية في مساحة واسعة جلبت له المال والنفوذ دون أن تغيّر من اعتقاداته الفاسدة وطبائعه الحاقدة، ناهيك عن خفايا الاتفاق وتقاطع المصالح بين أطرافه، علاوة على العلاقات السرية والمعلنة بين قوى الاستعمار والدولة العبرية من جهة وبين عملائهم من الصفويين الفرس ومن يدور في فلكهم من رافضة العرب من جهة ثانية، ومن العناء المعني تطبيع مَنْ لا طبع له ومحاولة طلب الخير من صاحب الطبع الشرير، وقد قال الشاعر:
كل امرئ راجع يوماً لشيمته
وان تخلَّق أخلاقاً إلى حين
وقال آخر:
لكل امرئ لا بُدَّ يوماً سجية
يصير إليها غير ما يتخلّق
وبعد التدخل العسكري الروسي في سوريا وعلى ضوء مجريات الحل السياسي المزعوم في هذا البلد افتضح المستور وتأكد المخبور، وتحول التواطؤ الأمريكي إلى ما هو أسوأ حيث كشفت أمريكا عن سوءتها وانحازت إلى جانب روسيا وإيران، وخذلت الشعب السوري والمعارضة الممثلة له كما تخلت عن أصدقاء الشعب السوري والوعود المخدِّرة والتصريحات المزورة التي يطلقها المسؤولون في الإدارة الأمريكية من حين إلى آخر، أدت دورها وفعلت مفعولها برداً وسلاماً على النظام السوري وحلفائه وخذلاناً للمعارضة السورية وحلفائها، وقد آن للعملاق النائم أن يستيقظ ويقول كلمته قبل أن يدفن تحت التراب، فالمؤامرة استحكمت حلقاتها ونجحت في تجاوز الكثير من محطاتها ونجح الحلف الشيعي الشيوعي في تنفيذ المخطط الأمريكي لخدمة المشروع الصهيوني نحو إيجاد الدولة اليهودية الكبرى وعاصمتها القدس، وانعكاس ذلك على المشروع الصفوي الذي تقوم الصهيونية مقام إمامه الغائب، والإرهاب مسموح به لدعاة الجهاد الكفائي من الرافضة الفرس وعملائهم وقساوسة الكنيسة الروسية، في حين يُحرَّم الحد الأدنى من الدفاع عن النفس على أهل السنة الذين تكالب عليهم الأعداء وانهالت عليهم الفتن والمحن من كل حدب وصوب، والسؤال الذي يتردد على ألسنة الجميع هو متى يتم تفعيل التحالف الإسلامي لمباشرة مهامه في سبيل الدفاع عن عقيدة الأمة والمحافظة على كيانها قبل أن يندم الجميع على التفريط في وقت لا ينفع فيه الندم؟.
وليس أدل على صواب رؤية المملكة وصحة ما ذهبت إليه من أن النظام الإيراني لن يستغل الفوائد التي سوف يجنيها من اتفاقه النووي لمصلحة الشعب الإيراني وتوفير الحياة الكريمة للإيرانيين، بل سيستمر في التضييق على الداخل وقمعه، وتصدير مشروعه الطائفي إلى الخارج، بشكل أكثر ضرراً وأشد خطراً على الأمن والسلم الإقليميين، وقد تجلى هذا السلوك فيما أقدم عليه نظام الملالي من استغلال تنفيذ المملكة لحكم من أحكام الله في حق أحد المجرمين الخارجين على الشريعة والقانون من مواطنيها، وذلك بالتحريض على المملكة وتبنّي حملة محمومة ضدها، ومحاولة إخراج القضية عن سياقها وحملها على غير محملها، ثم بعد ذلك الإيعاز للغوغاء المرتزقة من المحسوبين على أمن النظام بمهاجمة سفارة المملكة وقنصليتها دون مراعاة للقوانين الدولية والأعراف المرعية.
والواقع أن تنافر العلاقات الدينية بين المملكة والنظام الصفوي الباطني في إيران، وتصادم الرؤية السياسية للدولتين والهواجس الأمنية للمملكة مقابل الأطماع التوسعية لإيران، لم يترك ذلك مجالاً لأن تكون العلاقة بين البلدين في أحسن حالاتها، بل إن مبررات قطعها كانت قائمة منذ مدة طويلة، حيث إنها تتأرجح على صفيح ساخن من الشكوك والريب وفقدان الثقة بسبب تتطرف إيران وعقليتها الثورية ونزعتها القومية، وهذا الحادث ما هو إلا القشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة أن ملابساته وظروف حصوله، تستدعي عدم قبوله، الأمر الذي دفع المملكة لاتخاذ القرار الصائب بقطع العلاقات كلياً مع هذا النظام الذي يتعامل بمنطق الثورة وليس بعقلانية الدولة، إِذْ إن امتعاض المملكة وغضبها تتجاوز أسبابه الاعتداء على السفارة إلى ما هو أبعد من ذلك نتيجة لسياسة إيران العدوانية وممارساتها الطائفية التي لا يحدها حدود ولا يقيدها قيود، والصبر والزمن أصبحا غير كفيلين بإيجاد حلول لها بعدما تفاقمت وصارت تشكل خطراً داهماً وتهديداً قائماً يستدعيان المبادرة والاضطراب بدلاً من الاصطبار والانتظار.
قطع العلاقة مع إيران يعني قطع الطريق على مشروعها المذهبي والأمني ورفض قبوله وعدم الاعتراف به على النحو الذي يوصد الباب أمامها، ويحجب عنها القنوات التي تتحرك عبرها لتحقيق أهدافها المشبوهة تحت مظلة العلاقات السياسية والدبلوماسية، خاصة أن نظام الملالي ذو طبيعة شعوبية وبرغماتية ينظر إلى الأمور من منظور مصلحته الذاتية مغلباً أثرته على ما عداها والمصالح عنده مقدمة على المبادئ، والأهداف التي تستهدفها إيران والمصالح التي تسعى إلى تحقيقها تتعارض مع أهداف المملكة ومصالحها، كما أن الخلاف معها هو خلاف أبدي يتعلق بالثوابت حيث إنه جزء لا يتجزأ من الخلاف في العقيدة والمذهب، والأمن الذي تنشده يهدد أمن المملكة ودول مجلس التعاون والأمن القومي العربي وكذلك الأمن الإسلامي، إِذْ إن أمن إيران وفقاً لرؤيتها الرافضية الشاذة وتفكيرها الاثنى عشري الثوري لن يتحقق إلا باختراق الجميع مذهبياً وتهديد أمنهم، ومن هنا فإنَّ قطع العلاقات معها وعزلها هو عين الصواب والشاهد على حكمة القرار واستقامة المسار، الأمر الذي يستدعي الإصرار على ذلك، بعيداً عن نصائح المتآمرين والانهزاميين، وعلى دول مجلس التعاون والدول العربية والإسلامية أن تحذو حذو المملكة وزميلاتها الأخرى لعزل نظام الملالي وإحكام الدائرة عليه بشكل يمنعه من التدخل في شؤون الدول الإسلامية ومؤامراته ضدها، تنفيذاً لمشروعات قوى الاستعمار والصهيونية الذي يمثل أداة لها، وهذا هو موضوع المقال التالي.