م. فيصل بن فهد البكران
عندما تعبر طريقًا واسعًا، تحفه الأشجار الباسقة والمباني المميزة، ألا يوحي لك بشيء من الاطمئنان والراحة النفسية؟ العكس تمامًا؛ عندما ترى طريقًا عشوائيًّا محاطًا بالمخلفات العمرانية والسيارات التالفة المركونة على الرصيف؛ ما يؤذي العين ويسبب التوتر والقلق، فهذا يخلق نوعًا من أنواع التلوث، يطلق عليه «التلوث البصري - pollution Visual»!..
.. و(التلوث البصري) مصطلح يعبِّر عن معاني الإحساس بالنفور عند رؤية مناظر أو مظاهر غير جمالية أو منفرة في عناصر البيئة العمرانية، تتعارض مع كل من البيئة الطبيعية والمناخية أو القيم الدينية والخلقية أو الحضارية أو القيم الجمالية أو المعمارية.
وهنا أورد بعض مصادر التلوث البصري التي قد نشاهدها في الأحياء والطرقات للدلالة على هذه الظاهرة:
سوء التخطيط العمراني لبعض الأبنية، وتباين النمط المعماري والهندسي بين الوحدات السكنية في الحي الواحد، واختلاف واجهات المباني التي تشكلت بمختلف الطرز المعمارية؛ فهذا حديث وهذا زجاجي وآخر قديم ذو مشـربيات وعقـود، وكأنها في مهرجان تنافسي لإبراز أكبر مجموعة من الطرز المعمارية المتنافرة في مهرجان التراث!
بقاء المباني مدة من الزمن تحت الإنشاء دون وضع ساتر جمالي يخفي ما برز منها من تشويه!
مشروعات الترميم بالمناطق الأثرية، وعدم انسجام الأجزاء الجديدة مع القديمة.
اختفاء الحدائق والغطاء النباتي بين الوحدات السكنية في الحي الواحد.
اللافتات ولوحات الإعلانات المعلقة في الشوارع أو المحال التجارية بألوانها المتضاربة وأحجامها المتباينة.
إقامة المباني أمام المناظر الجميلة وإخفاؤها، مثل البحر أو أي مكان توجد به مياه.. وغيرها من الأمثلة الأخرى التي لا حصر لها.
هذا النوع من التلوث يؤثر سلبًا، ليس فقط على الراحة النفسية، بل على نعيم العيش في البلد الذي وُجد فيه، وعلى اقتصاده.. وقد تصل الحال - لا قدر الله - إلى هجر هذه المناطق الملوثة كما هُجرت قرى ومدن في أنحاء العالم للسبب ذاته.
وقد فطنت منظمة الصحة العالمية (World Health Organization) لذلك؛ وأعلنت أن «من لديه منظر سيئ، يطل عليه كل صباح، كلوحة إعلانية ضخمة، أو عمود إنارة تالف، أو جدار مشوه، فهو أكثر عرضة لأن يصبح فريسة للاكتئاب بنسبة 40 % عن غيره». فما بالك لو كانت قمامة أو مخلفات عمرانية؟
وهناك الكثير من الأبحاث التي وُجدت، تحذر من ارتفاع نسبة القلق والاكتئاب نتيجة هذا التلوث البصري، مشيرة إلى أن هذه المشاهد قد تنبت أضرارًا خفية؛ إذ يعتاد عليها الإنسان، ويهزل حماسه للنظافة والاهتمام بالمظهر الشخصي.
وقد تنبّه لذلك العلماء المسلمون الأوائل عند تخطيطهم للحضارة العمرانية.. فمن الناحية النظرية فإن الفيلسوف العربي المسلم «الحسن بن الهيثم» الذي عاش في القرن العاشر الميلادي - كما ورد في بحث المهندس عبدالحفيظ عوض، كلية تصاميم البيئة، جامعة الملك عبدالعزيز - قد أشار إلى كثير من خواص التصميم الحضري ذي العلاقة بالتعبير عن القيم الحسية والجمالية المختلفة وعناصرها، كأثر الإضاءة، اللون، الكتلة، الشكل، المكان، وكذلك الخصائص الأخرى، كالتميز والجمال، وكثير من المفردات التي تناولها المصممون في يومنا هذا عند التعامل مع عناصر البيئة العمرانية المختلفة.
والسؤال الذي يفترش مساحة هذا المقال: إذًا.. كيف نحافظ على جمال الذوق العام وارتفاع سقفه؛ ليعم النفس الهدوء والسكينة والتفاؤل؟
والجواب: لا يكون ذلك إلا بوضع نظام صارم للحفاظ على البيئة. وحسب علمي، لا تخلو دولة من نظام خاص للمحافظة على البيئة ومنع تلوثها وتدهورها والحد من ذلك.
وفي المملكة صدر النظام العام للبيئة بالمرسوم الملكي رقم م -34 في 28 - 7 - 1422هـ، يتضمن 24 مادة، ولم ترد فيه كلمة التلوث البصري إلا ضمنًا في شرح إحدى عبارات النظام الواردة في المادة الأولى، ونصها:
(تدهور البيئة: التأثير السلبي على البيئة بما يغير من طبيعتها أو خصائصها العامة، أو يؤدي إلى اختلال التوازن الطبيعي بين عناصرها، أو فقد الخصائص الجمالية أو البصرية لها).
وللأسف، هذا النظام لم يكن ليستوعب الذائقة الجمالية وأثر تلوثها على النفس البشرية؛ فأوردها ضمنًا، ولم ينص عليها صراحة؛ فأبقى المخالفة وعقوبتها مطاطة، تكيفها أمانات المناطق وبلدياتها، وتطبقها بنسب متباينة.
أما على نطاق الدول المتقدمة فأورد مثالاً بالمؤسسة الفيدرالية الوطنية المهتمة بالنظام البيئي الوطني بالولايات المتحدة الأمريكية (National Environmental Policy Act, NEPA)، التي أُنشئت خصيصًا لردع المتعدين على الجمال البيئي وكل من يتعارض مع أحكام القانون البيئي، بما فيها الإدارات الفيدرالية الأخرى.
فإن حصل هناك تعدٍّ على أحكام وقوانين هذه المؤسسة فلن تتردد في إيقاف المشروع، وإلزام المخالف بإعادة تخطيط المشروع أو نقله إلى مكان آخر دون تكرار المخالفة، وقد يصل إلى إيقاف الإمداد المادي من الحكومة أو إلغائه بالكامل.
ولم تمنعها قوانين الولايات المختلفة من ممارسة عملها، بل كل ولاية اتفقت مع هذه المؤسسة لحماية أرضها والنهوض باقتصادها ورغد العيش بها.
ولعل الأمل في وزارة الإسكان الناشئة والمنطلقة بقوة بدعم من قيادة هذه البلاد -حفظها الله - لصياغة أنموذج للأحياء السكنية المريحة للعين والنفس وملبية للحاجة والحياة البشرية الآمنة.
ولها خير مثال على ذلك في المشروعات السكنية التي نفذتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض أو الهيئة الملكية للجبيل وينبع.
إننا إذا دققنا في هذا التكوين المعماري للأحياء السكنية، الذي تم تنفيذها من قبل هاتين الهيئتين، من جانب قوة الانطباع التصوري البصري الحضاري سنجد أن كل حي يتميز عما سواه من الأحياء بقوة تصميمه وشخصيته الجمالية الخاصة به، إضافة إلى نسب توزيع الخدمات والحدائق والمرافق العامة التي يحتوي عليها الحي.
والوزارة وقد تحملت تبعات التصاميم والتخطيط كافة لأحيائها السكنية جديرة بأن تسهم في منع التلوث البصري فيها، ولتنطلق من حيث انتهى الآخرون، والإفادة من خبرات من سبقوها في هذا المجال.