د. خيرية السقاف
تأتي لزيارة أهلك، أو تلتقي صاحبك، أو تجلس في أي مكان ومعك من يشاركك الجلسة، لكنكم لا تلتقون إلا بأجسادكم.. فقرناؤكم «جوالاتكم»، تتحدثون إليها، تمنحونها نظركم، وحسكم، وسمعكم، وتذهب أحاديث من حولكم دون أن تسمعوها، ولا تجيبون نداءات توجَّه لكم، تجلسون وتمضون وكأنكم لم تأتوا..!!
وفي هذا قد تكلم المتكلمون، متعلمون وأميون، كبار وصغار، أقرباء وأصدقاء..
ذلك لأنك لا تفارق قرينك الذي تلتحم به، ليس في خلوتك فقط، بل في أي مكان، ومع أي شخص آخر أو أشخاص، في أي مناسبة أو بدون، وإن كانت عيادة مريض، أو زيارة والد..
هو ذا جهاز اتصالك ووسيلتك هو عالمك الخاص، لصيقك الذي لا تفارق..!
وحين تذمر كبار في بعض الأسر من انشغال أبنائهم عنهم «بجوالاتهم» ابتكر منه عند زيارة أبنائهم وضع سلة، تُجمع فيها جميع الأجهزة حين يأتون لزيارتهم لحين يغادرون، فيستعيدونها من السلة..
هذا في حالة انصياعهم لهذا القرار الأسري، وإلا فهناك عشرات المبررات منهم لعدم الانصياع..
الطامة أن الصغار في سن المراهقة ولدونة الاكتساب لا تجدهم إلا مستغرقين في شاشاتها، يتبسمون تارة، ويندهشون تارة.. وحين تتابع ملامحهم تدرك أن وراء تفاعلهم قصصًا وأخرى، وحين تكون الأقرب منهم فإنك الأبعد عنهم؛ لأنك تضع الثقة فيهم وهم في طور تشكُّل عجينة ما استوت بعد، ولا تعير انزلاقات المرحلة التي يمرون بها أدنى بال..
إنها ظاهرة عامة، لكنها ترتقي لدرجة الخطورة في شأن اتجاهات المجتمع، والأفراد، ومحصلاتهم، مع أن الجميع يشكو من تشتت الأسر، وتباعد اللحمة، وجهل الفرد عن أخيه حاله، وسؤاله، وعطفه، ووده، وحاجته، وقربه، ويكتفون ببضع كلمات على هامش مجموعاتهم في وسائل التواصل الهاتفي..
إلى الحد الذي قد يأتي يوم بالفرد وهو يجهل نبرات صوت أخيه، أو ابنه، أو أخته..
لقد بدأ نسيج العائلة في مجتمعنا يتشقق، ولن يجدوا ما يرتقه أبدًا!!
وبدأت مراسم العزاء في علاقات الأفراد تقيم مراسمها، ولن يتحقق للميت أن يعود..!!
وبدأ العد التنازلي للجسد الواحد ليفقد أعضاءه واحدًا تلو آخر..
فكيف يتلاءم ويقوم..؟!!
إن الناس بأفرادهم وهم يتوحدون بأجهزتهم اليدوية المتنقلة معهم ستعم عليهم غربة موحشة، وقد تلحق بنفوسهم فردًا فردًا..
مع هذا هناك من يعي هذه الطريق، وإلى أين ستقود بالعلاقات الأسرية، والاجتماعية، وبسلوك الفرد، وهو يتخذ من هاتفه اللصيق قرينًا له لا يفارقه يقظًا، ولا نائمًا..!!
كما أن في الجانب المقابل هناك من يعترف بفداحة مساوئ هذا لاستغراق في استخدام الهواتف المرافقة..
وهناك من يتفكر في النتائج فائقة الخيبات التي تنتظر على مستويات الأفراد نفسيًّا، وصحيًّا، وسلوكًا وعلاقات..
وعلى مستوى الإنتاج الفردي ومن ثم الجمعي، لكنهم لا يملكون حيلة لأسبابهم، غير أن مراكز البحوث في الجامعات، والشأن الاجتماعي، والثقافي، والتعليمي، والإعلامي، والصحي، عليهم التحرك السريع؛ لأنهم هم الذين يتوقع منهم الجدية في عزائم الأمور التي تختص بالأفراد، ومن ثم بالمجتمع..
في مقدمة أولئك الفرد ذاته؛ فكل يدعي الوعي، لكنه يجهل أن عليه أن يبدأ بذاته..!
تلافيًا لخسارات قد لا تحتملها طاقته النفسية، ولا قدراته الاستيعابية.