د. خيرية السقاف
ثمّة حزن عميق خيّم عليهما في اللحظة الأولى بعد أن عادا للبيت، وقد وارا جسد آخر الطيبين فيه،.. ذلك زمن مر بهما سراعاً سراعاً وحيدين دون سكانه ..!
كانا معاً يستلهمان ذكرى المكان ومن غادر، هنا كان متكأ الأب ، وهناك كان مخبأ الأم، وتلك زوايا أختين اختارهما الأجل ليسبقاهما إلى المأوى،
ذلك اللحاف لها، وتلك وسادته، والخاتم الفضي ذو اللمحة التراثية، وهدير النبض يسقي أنحاء الدار، ورائحة الطبق الشهي من بين يديها، ولم يَعُد أحد سوانا..!!
قالها «س»، لتهمس في عروقه «ف»: وأنا لم يبق لي غيرك..!!
سرعان ما تغير بهما الحال،
البارحة عاد «س» للدار وقد تكرر الموقف، لم يَعُد أحد فيه سواه، طوى الثرى جسدها «ف»، وبقي وحيداً إلا من طيوف هنا، لأجساد تحت التراب..
صدى هذه النبرات تصطخب في جوفه، ودعس الخطوات تهز سمعه، رائحة البخور، وبخار الطبخ، وهدير ماء الوضوء، سجادة مطوية عن جنب، ولباس كالح معلق فوق مشجب، وإناء كان جوارها في الليل لا تزال بقايا البابونج فيه، حتى كحتها النحيلة التي تنتزعها من صدرها المشحون بالبلغم لا تزال تدك صدره بحزنها،..
الطبيب الذي زارها في آخر مرة لم يكن من الحزم بحيث يقسرها للذهاب إلى المشفى،
قال «س» وهو يكاد يهم بالذهاب سريعاً إليه، ليهز كتفيه، لينهره، ليبكي بين يديه، يحمله وزر موتها..، لكنه سرعان ما هز رأسه بقوة ، أخرج منه أفكاره الجانحة، استغفر وحوقل، ثم مسح بطرف كمه دموعه وهو يسترجع، فالله وحده من بيده الأجل..
تلفت تجوب عيناه زوايا وجدران البيت الصامت الساكن إلا من أنفاسه،
التلفاز ينتصب على الجدار، منذ زمن لم يشاهده، لم يجب معه أحوال الطقس في العالم ، لم يرحل معه للمدن البعيدة، أو يعبر معه شوارعها، أو يجلس عنه إلى مقاعد لقاءات القادة، وسماع قراراتهم، والشعراء وأنينهم، أو يرى المشاهير ونفحاتهم، واللاعبين وركض أقدامهم، ومعرفة أحوال المنكوبين، والبكاء معهم على جراحهم..
كان مرض «ف» يشغله، وقد تعاهدا مذ خلا البيت بهما ألا يشغلا بغيرهما، يشغله كثيراً بعد سقوطها بين فكي وحش المرض، وأغلال الداء على قدر ما بقى له من قوة لم تكن إلا في قلبه..!!
يعلم «س» أن من يعرفهما من الأهل قد لملموا أطرافهم، واندسوا في منعطفات الحياة بعيداً بعيداً، لم يشأ منهم أحد أن يقلق لهما، أو يشاركهما وحدة العمر، والمرض، والعوز..، والحياة إن خلت من الأهل أغلقت نوافذها..!!
نهض «س» من مكانه، انحنى قليلاً قدر ما تسمح له عظامه نحو مرقدها، رفع آخر قطعة لها كانت تكوّرها تحت رأسها، وحين انتصب بسطها بين يديه، « شرشف» صلاتها، أجل هو، يضج بشذى حنتها، فمنذ عام ونصف لم تنتصب قائمة به، لكنها وهي مسجاة لا يرتفع جوارهما صوت المؤذن بالنداء، إلا تبدأ بالصلاة عيناها، وساعدها الأيمن يحتضن الأيسر بحنو على صدرها، ..ولأذنيه تنفلت بعض تمتماتها بكلام الله تعالى..
وحين جلس وحيداً إلا من بقاياها، فتح التلفاز وقلبه، لكنه سرعان ما أغلقه وهو يهز رأسه: ليس هذا العالم هو الذي أعرف.. وعند المساء، باب بيته للمرة الأولى منذ زمن لم يطرق، وعندما خيل له أنه يسمع جواره حركة وطرقاً خفيفاً متقطعاً، واربه بوجل، ليجد قطاً مبللاً بالمطر قد التصق بالباب يتمسح به، بلى ، بلى إنه الذي كانت تطعمه كل يوم حين عافيتها.. فتح له، دخل القط، وثمة من يؤس ليلة « ف» الأولى بعد وفاتها..
***
أما أنا، فقد حزنت كثيراً..
وما أملك لهما إلا الدعاء، فاللهم ارحمها ، واجبر فجيعته، ووحدته، فهو من يحمل على كتفيه سبعاً وسبعين مررن ..!!
***
والحياة مكتظة بحكاياتها ..!!