د. حمزة السالم
الإنسان ظالم فطرة، مخلوق على الظلم، تدعوه نفسه إلى الظلم غصباً كما تدعوه الغرائز الحيوانية الأخرى. والإنسان كذلك بالفطرة يحب العدل ويكره الظلم. وحب الشيء غير الخِلقة عليه، فكُره الإنسان للشيء لا يعني عدم خِلقته عليه. فالبخيل مفطور على البخل، لا يجود وإن كان يحب الكرم ويكره البخل، وكذلك الجبان يكره الجبن ويحب الشجاعة. والبخيل والجبان لا يفتآن عن بحث مبررات لتبرير قبح خلقهما، ولو وجدا دعماً حكومياً أو اجتماعياً لتطرفا في بخلهما وجبنهما وشطا شططاً بعيداً. والأديان عموماً تدعو في أصولها للرحمة والعدل، ولولا ذلك لم تحقق لها قبول وانتشار. والأديان عموماً كذلك، انحرفت عن أصولها فأصبحت حمالة أوجه يمكن تفسيرها على أقصى درجات التشدد والتطرف الذي فيه ظلم للغير، ويعد الظالم المتطرف فعله الظالم هذا من الرحمة والعدل لكونه ديناً.
ومن سبر تاريخ الدول والأديان سيلحظ اطراداً بين تسامح الدولة مع التسلط الديني أو فرضها لدين ما بممارسة متشددة أو بفرض تطبيقات متشددة، وبين ارتفاع مطالب عامة مواطينيها بالمزيد من السماح والدعم للتسلط الديني والمزيد من التشدد في الممارسة في فرض التطبيقات، مع ارتفاع في معدل تدخل رجال الدين في السلطة، حتى تنتهي الأمور في كل مرة إلى المواجهة، التي عادة ما تكون دموية. فهناك الرومان وتسامحهم مع التشدد الوثني ثم القضاء عليه بعد ذلك. وتكرار السيناريو الروماني نفسه مع اليهود. وهناك دول النصارى عبر التاريخ القديم قبل الإسلام والتي تكررت فيها هذه السيناريوهات كثيرا وبأشكال متنوعة. وأحياناً يكون ذلك لتحقيق غرض محدد، ثم لا يلبث أن ينقلب السحر على الساحر. كالتحريض على الحروب الصليبية ضد المسلمين ودعم فرسان الكنيسة وفرسان الهيكل أو المعبد ثم القضاء عليهم وحرقهم أحياء من قبل الدول الصليبية التي دعمتهم من قبل، بعد أن تعاظمت قوتهم وتسلطهم على الناس، «ومَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِ تَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا».
والتاريخ الإسلامي ليس ببدع من تاريخ الأمم. فالخوارج لم يظهروا على معاوية ولم يقاتلوه أولاً، بل خرجوا على علي - رضي الله عنه - وبه ابتدأوا فقاتلوه وقتلوه - رضي الله عنه - قبل أن ينطلقوا فيعمموا شرهم على الأمة، وقد خلق الله السلوك الاجتماعي للبشر على التبعية للأعراف السائدة، والأديان تُشكل الأعراف والثقافات كما تتشكل الأديان بها. والسلطة والمال تؤثران بشكل مباشر في تشكيل الأعراف والثقافات. فإن توجهت السلطة والمال للعلوم، أصبحت ثقافة الفخر والاعتزاز السائدة في المجتمع هي التسابق في المجال العلمي، وهكذا فيما لو توجهت السلطة والمال لأي أمر من الأمور. وكذلك، فمتى توجهت السلطة والمال إلى التشدد في الدين أو توجهت لفرض تطبيقات متشددة على المجتمع، أصبحت ثقافة الفخر والاعتزاز السائدة في المجتمع هي التشدد في الدين. فتكثر الدعاوى فيه ويرتفع معدل النفاق وتزيد المزايدات على الورع التدين من أفراد المجتمع وتتسابق المزايدات طلباً للصدارة والمنفعة، فيتجاوز تشدد المجتمع تشدد الدولة فيخرج عنها المتطرفون، كما تجاوز تدين الخوارج وورعهم، تدين علي - رضي الله عنه - وورعه فتطرفوا في تدينهم، فخرجوا عليه فقاتلوه وقتلوه، يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.