د. حمزة السالم
كم هي عجيبة مقدرة النفس البشرية على إيهام نفسها بمشروعية ما تفعل، بتأويل أو تبرير، ولو كانت النفس البشرية ذاتها لا ترى شرعية الفعل ذاته الذي بررته لنفسها.
ومن أعظم ما تدافع عنه النفس البشرية لا شعورياً أو شعورياً ولكن جبرياً لا إرادياً، هو أحلامها ومعتقداتها وتراثها، فهذه الدفاعية فطرة أصيلة قوية غالبة، خلقها الله في المخلوقات، وهو سبحانه أعلم، من أجل الحفاظ على استمراريتها. ثم وجل شأنه أعلم، استثنى الإنسان من الغلبة المطلقة لهذه الفطرة الدفاعية فجعلها غلبة غالبة، لا غلبة مطلقة فكانت هذه الفسحة المحدودة هي مقدرة العقل القاصرة وإرادة الخيار المحدودة. ولولا ذلك لما كانت هناك مجتمعات ولا أخلاق، والتي تُعدم البشرية بعدمهما.
فالناس تتفاوت في فهومها وأفعالها على قدر تفاوتهم في مقدرتهم على استقلالية فكرهم وأفعالهم عن فطرة النفس الدفاعية. والناس في هذا على مراتب ثلاث. فهناك من لا يدرك ولا يشعر أصلاً بعمل فطرة الدفاعية. كالرجل يحسد أخاه لماله أو منصبه، ولا يشعر بظلمه لأخيه أصلاً، فلا تتعب نفسه في تبرير ظلمه. وهناك من يدركها ولكن لا يستطيع التحكم بها جبراً لا خياراً، كالذي يكذب بلا سبب، يعاهد نفسه ثم يعود للكذب مجبراً. أو كالذي يكذب لسبب فترى نفسه تبرر ذلك، مثلاً، بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة. وهناك من يدركها ويفهمها ويملك إرادة عزلها عن فكره وأفعاله. فهؤلاء هم عقلاء القوم وحكماؤهم، فإن اختار عدم عزلها، فأولئك هم شرار القوم ومفسديهم.
فمتى استوعب المرء هذا، لم يستنكر الرجل، ظلم بعض الأمهات أو الأخوات لزوجة الابن، أو ظلم الزوجة لأمه وأخته. ولما استعجل في كراهية صديق ظلمه ولا حكم سلباً على موظف اتهم زميله كذباً، ولا أستعجب دفاع أب عن ابنه وهو عالم بظلمه. فغالب هذه الحالات لا يدرك فاعلها أنه ظالم لأخيه أو كاذب عليه، أو أنه لا يستطيع التحكم بها فنفسه تبرر له. فإنما الأم قد تخيلت ما رأته في الزوجة، ولم تكذب وإن أدركت أنها تكذب فهي تتأول لنفسها. وكذلك فما ظلم الصديق وما افترى الند لكن نفسه لم تدرك فطرتها الدفاعية اللاشعورية. فأفعال الأنداد الظالمة وأقوالهم الكاذبة، قد لا يدركون ظلمها وكذبها، إنما هو ما أوهمتهم به فطرتهم الدفاعية فرأته أعينهم وسمعته أذانهم وفهمته عقولهم ووعاه قلبهم. ولو أدركوا، لتأولوا، فما من بشر يرضى أن يكون ظالماً أو معتدياً، إنما هي النفس التي تُعمى أو تتأول ظلمها فيصبح عندها عدلاً. فغالب البشر على خير، لأن الإنسان مفطور على حب العدالة، إنما يعميه عنها عمل الفطرة الدفاعية الغالبة.
الفطرة الدفاعية في الإنسان هي التي تجرأ الشخص المسالم على انتهاك الدماء بتبرير ديني أو وطني أو قبلي أو ذاتي. وهي التي تدفع الحاكم لاستحلال الأموال والدماء وتدفع رجل الدين للكذب على الله وهو يبرر لنفسه خبث عملها.
والنفس متى استمرأت الانسياق للفطرة الدفاعية انعكس ذلك على عقل الشخص، فأصبح عاجزاً عن الفهم والإبداع. وأنا أعتقد أن الناس لا تتفاوت في مقدراتها العقلية إنما تتفاوت في مقدرتها على فهم نفسها أو السيطرة عليها. فمقدرة العقل من مقدرة النفس على منع ذاتها من إيهام العقل لتسخره في الانتصار لذاتها، ومنعها من حجب النظر فلا ينصرف عن التصور المسبق الذي عنده. وليس من السهل الاعتراف بالفطرة الدفاعية ولا بالتحكم بها لو اعترف بها صاحبها، ولذا يقل المبدعون والمفكرون في المجتمعات عموماً.