د. حمزة السالم
سألني أندلسي عائد عبر الزمن عن أسعار الرقيق هذه الأيام في سوق النخاسة عندنا لحاجته إلى تكفير بعتق رقبة قلت له: إن الزمن قد تجاوز عصر الرقيق والإماء الحقيقي الذي عهدت في الأندلس إلى صور غير منضبطة من الرق الاعتباري هنا وهناك في الغرب والشرق.
استنكر الأندلسي هذه المقولة وقال: أين تذهب إذن أحكام الرق والرقيق وما فيها من عبادات ومعاملات لها آثارها العظيمة ومتعلقاتها الدينية والدنيوية؟ وماذا نفعل بالكفارات؟ وأين تذهب هويتنا الإسلامية إذا اتبعنا الغرب في كل صرعة يأتي بها؟ وكما تعلم فمفهوم الرق في الإسلام ليس كمفهوم الرق عند هذه الأمم.
وماذا عن هؤلاء الذين في بيوتكم الذين اعتقدت في رحلتي عبر الزمن أنهم هم الرقيق عندكم لما رأيته من رقة حالهم وسكناهم وأكلهم وإيوائهم في بيوتكم وبيعهم بعضكم لبعض بربح وخسارة، وأبق بعضهم هروباً أو عصياناً. فلم لا نقيس الخدم على الرقيق بجامع الخدمة، فهي وصف مناسب للعلة؟! واعتماداً على ما ذكرت من أوصاف سابقة لخدمكم الذين في بيوتكم تبين أنه أيضا وصف ظاهر ومنضبط للرقيق عندنا في الأندلس فتكاملت بحمد الله شروط العلة وشواهدها. والعرف يشهد لصحة هذا القياس لاعتباركم قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم» في الحاصل الآن عندكم في بيوتكم. ولا يخفى عليك ما في ذلك من الأخذ بالأحوط وما فيه من سد الذرائع وما في ذلك من تحقيق مصالح عظيمة من استمرار الرق وأحكامه وما فيه من دفع لمضار عظيمة حاصلة بوجود خدم في بيوتنا كالرقيق ولا أحكام الرقيق.
ولكننا سنحتاج إلى بعض المسميات لتتلاءم مع أحكام الرق الجديد ولنسمه «الترقق الإسلامي»، فيرى الفرنجة عظمة ديننا وحكمة شرعنا، فإذا أردنا التكفير بالعتق أعطينا الخادم راتب ستين سنة وهي تقارب قيمة الرقيق عندنا في الأندلس ولنسمه»العتق المدفوع المستقصر». ودليل صحة هذه المعاملة قول أسماء بنت أبي بكر « فكأنه أعتقني» عندما أرسل لها أبوها - رضي الله عنه - من يكفيها سياسة فرس الزبير. وأما دليل الستين عاماً فقوله عليه الصلاة والسلام: أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، والحمد الله فقد تم التأصيل بالدليل، كما لا يخفى عليك ما في هذا القياس من براءة للذمة من إحضار للنساء في بلاد غريبة واختلاطهن المحرم بالرجال من غير رفقة آمنة أو محرم والذي قد انتشر وعم دون نكران ولا استغراب مما يدعم مقالتي أن العرف قد استقر بأن يعامل الخدم كالرقيق. وفيه توسعة على الناس فمن أراد التسري فهو خير على خير وما عليه إلا أن يُشهد أصم أبكم. ولكن بشرط كونها على كفالته ولنسمه «التسري المستخفي المستنوي». فإن لم يكن كفيلها فيجب عليه أخذ إذن كفيلها ونسميه حينئذ «التسري المستنوي بالإذن». فإن لم يأخذ الإذن فهو حيلة على الزنا كما قد يفعله بعضهم ممن لا يخاف الآخرة والعياذ بالله.
قلت للأندلسي أخطأت في التأصيل فضللت الطريق فأتيت بالعجيب. استدللت بالعموم على الخصوص وبالمصالح المرسلة على الأدلة المحكمة واشتغلت بالتأصيل والتنظير بعد أن وضعت الحكم والنتيجة.
يا حبيبي شكر الله لك وبيض الله وجهك وحرّمك على النار، الرقيق في جوهره رقيق وإن أبق فراراً أو عصياناً، أو حَكَم أصلاً أو نيابة، أو مَلك لنفسه أو لغيره، أو خدم أو اُُستخدم له. والخادم عندنا لا يعود خادماً إذا انسلخت عنه صفة الخدمة. ويا حبيبي زوال الرق هو في أصله مطلب شرعي تشوف إليه الشرع وحث عليه. والرق كانت له أسبابه التي لم تعد قائمة. والحمد لله فكل ذلك من ظهور آيات علم الله لغيب الأولين والآخرين.
فبادرني الأندلسي قائلاً: انطلقت شرقاً هارباً من القتل والعذاب بعد دخول الفرنجة البلاد. فسرت ولهان حيران، فوطئت شخصا خطأ فقتلته، فوالله لا أدري أسقوط الأندلس وما فعل الفرنجة فيها من فساد وإفساد أعظم، أم قولك المتناقض أعظم؟. ثم خاطبني الأندلسي حانقاً ساخراً متأملاً ومعتبراً فقال: سبحان القاهر فوق عباده كيف يظهر تناقض أفهام عباده ليظهر عجز المخلوق وقدرة الخالق، فكيف تتطاول وتُخطئ قياس الخدم على الرقيق، وهو وإن لم يكن فيه قياس المعنى ففيه قياس الشبه وفيه تحقيق لمقاصد الشرع، ثم تحاجني بأن الرق جوهر والخدمة عارض طارئ، وأن مقاصد الشريعة تتحقق في العتق لا في الرق ثم تعود وتقيس الأرقام والأوراق على الذهب والفضة بجامع الثمن والذهب والفضة لم يعودا أثماناً؟ ثم تزعم أن هذا متفق مع مقاصد الشريعة!! فجعلت لزوم إيجاد الربا والتضييق على المسلمين وتفسيقهم مقصدا من مقاصد الشريعة!! وسخرت من تحايلي في أحكام الرق ولم تسخر من تحايلك على أحكام المعاملات تحايل الصبية على مجنون المحِلة؟ وفوق هذا كله فقياسي الخدم على الرقيق هو من باب التسهيل وهو مطلوب في الشرع، بينما قياسك الورق والأرقام على الذهب هو من باب التعسير والتضييق وهو مكروه للشارع. وتخارجي هو لتحقيق حلال وتمكين كفارة وتحايلك لتحقيق حرام.
قلت هوّن عليك يا أندلسي، فعندنا من فقهه أعظم من فقهك، فدونك إياهم فاسع إليهم بالدرهم والدينار وبالجبة والعُمة، يسعون اليك برق مُستَرقق ومستورَق. فتعتق حينها إجارة إن شئت أو مرابحة، وقد أديت كفارتك بصك مختوم وفقه مستورق موروق. فنظر لي قد زاغت عينه فاتحاً فمه. فقلت له، لا تزغ عيناً ولا تفغر فاهاً، والله وكأني أراك غداً وانت باصم ومُستبصم، وقد لبست الجبة واعتممت العمة، ولسان حالك يقول: هذه الديار لا ديار أندلس، فالشرط فيها أربعون بقسمة الدنانير كل له عشرون، ونترك الفلس لمطية التبيع المسكين.