أحمد محمد الطويان
في السادس من أبريل بدأ الملك سلمان زيارته التاريخية إلى مصر.. توجت السعودية في خمسة أيام عشرات السنين من العلاقات الوطيدة، والتي تميزت بالدفء حتى في أكثر أوقات التنافر السياسي شدة في الستينيات، لم تتنازل المملكة عن مكانة عالية عند المصري في الشارع والحاكم في القصر، وإن اختلفت الرؤى تلتقي القلوب.. ليس شعراً ولا تجميلاً أو مبالغة بل حقيقة تؤكد فرادة العلاقة وتميزها. حقق الملك سلمان كل ما تقتضيه مصلحة الطرفين، وحسم كثير من الملفات، وجفف بحيرة الماء العكر، فلا مكان للاصطياد.
أعادت المملكة الجزيرتين السعوديتين «تيران وصنافير» إلى سيادتها، بود ومحبة تماماً مثلما أعيرت بالمحبة والود، ومدت يدها للاستثمار من أجل المصريين، وباليد الممدودة بنت جسراً يربط آسيا بإفريقيا بلغة الجغرافيا، ولكنه في الحقيقة ربط لقلب بجسد، وبلغة الاقتصاد هو نقلة كبرى لتنمية تسير ببطء بسبب كثير من العوامل، لم تأتِ السعودية إلى مصر لتعينها بمبلغ ضخم على سبيل الهبة أو حتى القرض.. بل استثمرت لمصر بمصر ومن أجل مستقبل أكثر إشراقاً. ففي المنطقة الحرة المزمع إنشاؤها في سيناء الكثير من الفرص الوظيفية، والكثير من مصادر الدخل والكثير من الأحلام التي ستتحقق.. ففي هذه الزيارة التي كللت مجهودات فريق من الجانبين بالنجاح بعد عمل مرهق قابل المصريون ملك السعودية بترحاب كبير، ولم يستقبل الشعب والحكومة زعيماً في عهد الجمهورية على الأقل كما استُقبل الملك سلمان، لم يصطنع المصريون الفرحة، رغم لطفهم ومجاملتهم المعهودة إلا أن صدق المشاعر كان واضحاً وجياشاً.. جاءت السعودية بكل أطيافها إلى مصر بوفد كبير وبنخبة من أمراء الأسرة المالكة، في إشارة إلى أن ما يربط مصر بالسعودية أعمق من السياسة وأكبر من المصالح.. استطاعت السياسة السعودية أن تظهر ذلك، وأن تحمي المصريين من التلاعب بمشاعرهم، بمحاولات المرجفين والطامعين بالفوضى.
ومن مصر إلى أنقرة رحلة جديدة للسياسة السعودية عندما حطت قائدة الأسطول الملكي بوينج 747 رقم واحد على أرض مطار العاصمة التركية، لتؤكد دولة سلمان أن العلاقات التي بدأت مع تركيا في 1929 لا مجال للتلاعب بها أو حرفها عن مسارها، خصوصية أخرى في العلاقات مع أنقرة يريد السعوديون تمتينها والبناء عليها. بعيداً عن أي اختلافات تأتي وتذهب تبقى الموثوقية والاحترام والشراكة الحقيقية في الملفات السياسية، وبعد نجاحات مهمة لمجلس التنسيق السعودي المصري، يأتي مجلس للتنسيق السعودي التركي، وبحزمة شراكات إستراتيجية غاية في الأهمية، لتكتمل أركان العلاقة الثنائية الناجحة بتحالف وتضامن وشراكة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
ربما هناك من يتساءل كيف ستجمع السعودية المختلفين في السياسة حولها، وكيف ستوفق بينهم؟ والجميع يعرفون الحد الذي وصلته الاختلافات بين القاهرة وأنقرة.. هنا سر التوجه السياسي السعودي في البناء على المرتكزات والمشتركات في العلاقات الثنائية وبما لا يؤثر على العلاقات الأخرى لأي طرف، وبما يخدم التقريب والتوفيق بين جميع الأطراف. تعرف السعودية بأن التحديات الكبرى التي تواجه المنطقة اليوم أكبر بكثير من كل الخلافات، وأكثر تعقيداً مما يتصوره المتمترسون خلف مواقف «عنيدة وصلبة» ولن تتمكن المنطقة من تجاوز هذه التحديات والمشكلات إلا بالعمل سوياً خصوصاً الدول المؤثرة والمهمة.. عندما تعمل السعودية مع مصر وتركيا سيتحقق أكثر بكثير مما تعمل لتحقيقه بمفردها، ففي محورين أساسين تبرع السعودية في العمل على أهدافها، علاقات ثنائية قوية ودافئة وعلاقات متعددة منتجة وراسخة.
وفي ذات الوقت الذي وصل فيه الملك سلمان إلى أنقرة، كان الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في مطار العقبة مستقبلاً بحفاوة من العاهل الأردني، وعقدا جلسة نقاش تم التطرق فيها إلى مسائل سياسية وأمنية واقتصادية في ذات الإطار الذي تتحرك فيه المملكة سياسياً منذ اليوم الأول في عهد الملك سلمان. ومن العقبة إلى «أبو ظبي» شريكة الرياض ورفيقة دربها، ومشاورات مهمة بين الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد.. والأربعاء كانت أسطنبول في استقبال الملك سلمان لحضور القمة الإسلامية.. يدخل «سلمان بن عبدالعزيز» متقدماً وفده الكبير إلى القاعة التي تضم الزعماء المسلمين ويلاقى بحب وتقدير واحترام، بعد أن جمع قلوبهم وسواعدهم في الانتصار للإسلام، ومحاربة الإرهاب والتطرف، وحمايتهم من التوغل الإيراني الاستخباري الذي عمل على إشاعة الفوضى والعبث ببلدان مسلمة، خدعتها الأدوات الإيرانية الماكرة.. وها هو الوفد الإيراني في قاعة القمة منكسراً أمام الهيبة السعودية، وقد فقد كل أذرعته وأماكن نفوذه، هذه القمة المهمة ستؤسس على مبادرات السعودية مواقف هامة، وحضوراً قوياً في الملفات السياسة والعسكرية، بعد أن تلاقت الأهداف، بمجهودات سعودية مضنية خلال الفترة الماضية.
حراك سعودي لا يهدأ في عشرة أيام سمان.. وما ترصده الكاميرات أقل بكثير من أعمال كثيرة تبذل بعيداً عن الكاميرات، ومن يعمل كثيراً لا يريد الضوء ولا يبحث عنه.. دروس السياسة السعودية بدأت ولن تنتهي.