د. عبدالحق عزوزي
السنوات المقبلة ستطرح تحدي إحياء مؤسسات النظام العربي لخلق تكتلات قوية بدول محورية تستطيع حل النزاعات والحروب الداخلية في العديد من البلدان العربية، وتدعيم علاقات التعاون والتنسيق الاقتصادي من ناحية أخرى.
ولا ننس أن إيران قد نجحت اليوم في مباحثاتها مع الدول الغربية الست في إحداث رابط بين ثلاثة عوامل محددة: القدرات النووية، العلاقات مع الغرب، والنفوذ الإقليمي، واستعملت بذكاء هاته الروابط الثلاثة في «أنها «الجزرة» الموعودة للغرب، في وقت انطلقت فيه لتوسيع دورها، وترسيخ نقاط ارتكازها في المنطقة بهدف خلق أمر واقع يصعب تغييره لاحقا.
ثم إن الإدارة الأمريكية تعتقد كما يكتب سعيد رفعت: «أن إيران- مثل الولايات المتحدة- دولة معقدة ذات مجتمع حي، ما يجعل الانخراط معها رهانا واقعيا، وهي وإن كانت لا تعتبر دولة ديموقراطية، إلا أن نظامها يستجيب لجمهوره. كما أن له بعدا برجماتيا. وأن إسرائيل -الطرف الثاني في المعادلة- تربطها بأمريكا علاقة عائلية ذات طبيعة ديموقراطية قوية تتسم بالمشاكسة، ما يجعل الخلاف بينهما داخليا. وأنه بين هذه الدول الثلاث هناك «العرب السنة» الذين ينقسمون إلى حلفاء لأمريكا، وشباب سنة ليس أمامهم حاليا غير داعش ليختاروا منه. وهي مجتمعات لا يمكن التأثير عليها من خلال سياسة الانخراط، كما لا تشكل دولا برجماتية تستجيب لمطالب جماهيرها. وأن الخطر الحقيقي الذي يداهم حلفاء أمريكا بينها لا يأتي من غزو إيراني محتمل، وإنما من عدم الرضا الشعبي داخل بلدانهم» ومن هنا كانت أهمية الاقتراح بتشكيل قوة عربية عسكرية مشتركة وإقدام السعودية على إقامة وقيادة تحالف عربي إسلامي واسع.
ويرى الكاتب غازي دحمان بجلاء أن تشكيل هاته القوة لها بيئة من المحفزات التي تعطيها الزخم الكافي لتأمين إقلاعها، ومن بين ذلك: -من حيث المبدأ يعتبر قرار إنشاء قوة عربية مشتركة أمرا جيدا، ويترجم الفكر الجديد بوجود عمل مشترك وهذه المسألة من شأنها تزخيم مسألة العمل العربي المشترك على كافة المستويات إذ إن مجرد الإحساس بوجود توافق مشترك حول القضايا المصيرية ووجود إرادة في العمل على الحفاظ على المصالح الأمنية العربية من شأنه أن يبعث الروح في كل مفاصل العمل العربي المشترك ويشكل قاطرة لجر كافة العربات.
-أن تحديات الأمن القومي العربي الجماعي تمتد عبر الحدود. ما يجري في أي بلد عربي من اقتتال داخلي يلقي بظلاله على الواقع العربي، إضافة إلى استفحال التنظيمات الإرهابية بممارستها التي تثبت بما لا يدع مجالا للشك تعاظم الحاجة إلى قوة جماعية عربية تكون جاهزة للتدخل السريع، وقد ثبت بالدليل القاطع مدى تأثر وحساسية الشعوب العربية بالكوارث التي تحصل في أي بقعة من الوطن العربي وانعكاس هذا الأمر بشكل جلي على مزاج الشعوب وتأثيره على استقرارها وتطلعاتها.
وكان التدخل العسكري السعودي العربي الإسلامي لوقف الزحف الحوثي سابقة في تاريخ التدخلات العسكرية العربية، وكانت هناك لحسن الحظ إرادة استراتيجية كانت تنتظر الوقت الإستراتيجي لإيقاف نزيف الاختلال في صيرورة النظام العربي والمنظومة الإقليمية وذلك في ضوء الحقائق التالية:
1 - الاعتماد على الحليف التقليدي الولايات المتحدة الأمريكية، دركي العالم لم يعد ممكنا، وهاته سنة تاريخ العلاقات الدولية، فأمريكا لم يكن لها يوم من الأيام دول صديقة وإنما مصالح، وهو ما دفع عبد العزيز التويجري إلى القول: «إن الاعتماد على وعود الإدارة الأمريكية وتطميناتها في شأن برنامج إيران النووي وسياستها الطائفية التوسعية والوثوق بتبريراتها لمواقفها تجاه الأوضاع في سورية والعراق ولبنان واليمن، وتصريحاتها المسوفة في شأن القضية الفلسطينية، كل ذلك سيؤدي إلى تمكين إيران من التغلغل في المنطقة وفرض إرادتها على دولها العربية، ويحقق ما تهدف إليه «الفوضى الخلاقة» من تفتيت لهذه الدول ووضعها بين فكي كماشة صفوية صهيونية تطمع في ثرواتها وترهن إرادتها وتتحكم في مستقبل أجيالها».
2 - إيران استغلت اتفاقها النووي مع أمريكا وحالة اللاأمن في المنطقة لمد نفوذها العسكري من خلال تحريك ميليشياتها العسكرية في المنطقة الجغرافية المجاورة للدول الخليجية، وهو ما جعل دول المنطقة تتدخل بنفس استراتيجي أكثر ملاءمة وأقوى ردعا ومعالجة للخلل في الميزان الإقليمي وبأدوات عسكرية في غياب محرك أو اكتراث دولي لتداعيات الصراع في البلد.
3 - عاصفة الحزم مكنت من استباق الأحداث، وتفادي الخطأ الجهوي الذي مكن سابقا إيران من بسط سيطرته على لبنان من خلال إنشاء دولة داخل الدولة ممثلة في حزب الله مع كل المواصفات الخطيرة على سيادة الدولة الأم من حيث تواجد عناصر محلية طائفية مسلحة حتى النخاع، وإذا لم تكن هناك عاصفة الحزم، لأمكن التكهن بأن التجربة اللبنانية ستكرر في اليمن لكن على صعيد واسع وفي الحدود الجنوبية للسعودية، هذا دون أن ننس أنه لولا عاصفة الحزم لحاولت منظمات تكفيرية إرهابية مثل داعش ومن والاها مهمة مواجهة الزحف الحوثي.
فعاصفة الحزم مكنت إذن ويجب أن تمكن إعادة العرب للثقة بأنفسهم في غياب تغير مستمر لقواعد النظام العالمي، وانسحاب دركي العالم لقواته ولحساباته العسكرية والتحالفية من المنطقة، فالمشاكل يجب أن تحل إقليميا وبالاعتماد على النفس وعلى التعقل والعقلانية اللازمتين لدحر الأخطاء المحذقة واستباق الأحداث التي قد تقوض أمن واستقرار المنطقة. هذا الوعي العروبي الجديد يجب أن يؤسس من خلال دول محورية رئيسة كما أسلفنا، وعلى رأسها السعودية والمغرب والإمارات ومصر، ولا يمكن التباهي بإمكانية جمع 22 دولة عربية على قصعة عروبية واحدة، كما لا يجب فهم كلامنا على أننا نسعى لإزالة الدول العربية الأخرى من هذا الوعي العروبي الجديد بتحالفاته الاستراتيجية والاقتصادية والتنموية والعسكرية، بل يجب خلق ميكانيزم مؤسساتي تكتلي محدود تنضم إليه الدول الأخرى تباعا، حتى إذا وقع خلل أو اختلال في تلك الدول لن يؤثر ذلك على المنظومة التكتلية ككل وهذا ما عانى منه النظام العربي لعقود، إذ كلما وجدت مشاكل بنيوية داخلية أو بين دولتين وأكثر إلا وتأثر النظام بأكمله فتعطلت الهياكل وكل البوصلات التكتلية الإقليمية والاتفاقيات المبرمة، وهلم جرا.
ويجب التذكير هنا أن عاصفة الحزم لم تنتظر الضوء الأخضر من واشنطن للتدخل في اليمن، وهي التي كانت مشغولة بالاتفاق النووي الإيراني، وبالانتخابات الرئاسية في أمريكا، ولا ننس أن النجاح الذي حققته السعودية في جمع الدول العربية والإسلامية من حيث السرعة والقرارات المدروسة لم يشهده العمل العربي المشترك منذ عقود، وهو الذي أثر إيجابا بصدور قرار مجلس الأمن الداعم للشرعية في اليمن. ثم إن التحالفات العسكرية القوية تنشأ بدول محورية وتتأسس على قواعد وأصول لا تحور ولا تجور، والحلف الأطلسي أفضل مثال على ذلك، فالممول العسكري والمالي الرئيسي هو أمريكا والتواجد البشري والعسكري في عقر أوربا، والتحالف هو تحالف أوربي أمريكي مشترك، يسمح له بالتدخل السريع إذا كان هناك إجماع استراتيجي كما هو الحال في تدخله في كوسوفو (تسعينيات القرن الماضي) أو في ليبيا، وإذا لم يكن هناك إجماع كما هو حال التدخل الأمريكي - البريطاني في العراق لما قبل سقوط نظام صدام، فإن التدخل العسكري يبقى في بداياته أحادي الجانب دون تدخل الحلف الأطلسي ولكن دون زعزعة أركانه بسبب اللاإجماع الإستراتيجي؛ فهكذا يجب أن تكون التحالفات، قائمة على قواعد صلبة واستراتيجيات دائمة، وإذا تمكنت الدول العربية المحورية سالفة الذكر في تحقيق ذلك لبدأت شراكة حقيقية وتحالف دائم قد يمتد إلى العديد من دول بؤر الصراع الساخنة على أساس تعريف الصراع بصفته السياسية لا الطائفية ولا المذهبية والانفتاح الكامل على طاولة الحوار والمفاوضات إذا اندثرت أسباب التدخل العسكري وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9 سورة الحجرات) هنا سنبدأ بتمثل نتائج عاصفة الفكر انطلاقا من إحداث ثورة عقلية- فكرية تحرر الإنسان العربي من عوائقه الذاتية، وتجعله يفكر بالعقل بعد أن فكر فيه، وينشئ عقلا ناهضا بعقل ناهض، وعقلا نظريا موضوعيا ينتج العلوم والتقنيات ويبني الأمم والأوطان وهي الوسائل الأساسية للحداثة والقوة.