د. عبدالحق عزوزي
نشر لي مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية مؤخراً كتيباً بعنوان: «اتحاد عاصفة الفكر: الدلالات والتحديات» وهو عصارة ما أراه ضرورياً لإصلاح ما اعوج في مسيرتنا الحضارية، فالوطن العربي في
السنوات الأخيرة يعيش أزمات صعبة ومتتالية إلى حد أن التسونامي المجتمعي الذي لحق ببعض الأقطار كان من نتائجه الحصرية تغيير النظم وتفكيك الدول. وهذا الواقع أدخل العديد من الكيانات في أطوار مجهولة الملامح بسبب دورات الصعود والهبوط في ديناميتها. انفجرت الأزمة في تونس، ولحقتها مصر قبل أن تتوالى الانتفاضات في ليبيا واليمن وسورية، وظن البعض أنها تستحق صفة «الثورة العربية الكبرى» فكأن «كل أزمة تاريخية مؤداها إلى مأزق، والمأزق لا يدوم إلى الأبد. لا بد أن ينفجر لتنفرج الأزمة، فكأن المثل العربي الشعبي «اشتدي أزمة تنفرجي...» جاء مصداقاً لحكمة التاريخ». ولكن بعد أربع سنوات من كتابة هذا الكلام، فإن تشخيص الأزمات الحالية توحي بأن أغصان شجرة الانفراج لم تورق بعد، إن لم نقل إنها لم تظهر بعد. فتشخيص عوامل الأزمة والانفراج في الوطن العربي في أبعادها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإقليمية والدولية، تجعلنا نقر بأن الأزمة لا يمكن اختزالها في يافطة أزمة الانفتاح السياسي وصناديق الاقتراع، بل إنها أزمات أعمق وأدهى، وتحدث شرخاً مستمراً في جدار الدولة الوطنية في الوطن العربي، بل إنها تهدد وجود الدولة كما هو الشأن في ليبيا، وتؤصل لأزمات لا تخمد في علاقة الدولة بقوى المجتمع المختلفة. والتطورات الأخيرة التي أسفرت عن تقدم داعش بطريقة خيالية في عدة دول كسوريا أو العراق، وما تبعتها من ضغوطات سياسية وعسكرية على كيان العديد من الدول ووحدتها الوطنية والإقليمية، وتداعياتها التدميرية المستمرة، كما أن استنجاد دولة مثل العراق بميلشيات الحشد الشعبي الشيعي المدعومة من إيران، وتغيير الولايات المتحدة الأمريكية لإستراتيجيتها في المنطقة ومحدودية إرادتها في دحض داعش، وتجسيد سياستها في التعامل مع نظام عربي إسلامي إقليمي جديد مبني على التوازن بين العرب وإيران، واستهانة البيت الأبيض بالأخطار المحدقة بالمنطقة، ومحاباة الدولة الإيرانية ودفعها لقيادة أزيد من نصف المنظومة الإقليمية العربية، وواقع اللا دولة في ليبيا، وأزمة الإرهاب في تونس، كل هذا وذاك يوحي بما لا يدع مجالاً للشك إلى واقع اللا ثورة وسراب الثورة. وفي المقابل، فإن التراجع في الواقع السياسي في النظام العربي في السنوات الأخيرة، أدى فجأة بسبب أزمة اليمن، وتداعيات التقارب الأمريكي - الإيراني في المنطقة، إلى تشكُّل وعي عروبي قلَّ نظيره مبني على اثقة بالذات، وعلى استعمال كافة القوى الذاتية والمشتركة لتحقيق الأهداف المتوخاة لصون مصالحها وأمنها وحدودها، وهو ما جسّدته عاصفة الفكر بقيادة السعودية في تحالف عربي - إسلامي هو الأول من نوعه لتعيد العاصفة الروح إلى الجسد العربي المتآكل والدفاع عن الحياض العربية، فكانت إيران تظن أن طبولها في اليمن ستعلن قبضتها وتكمل إستراتيجيتها التواجدية والعدوانية، وهي التي سبق لها أن قرعتها في بيروت ثم بغداد ثم دمشق، «فلم يأتها شر حتى تيقنت أن صداها يرعب العرب ويزيد شتاتهم فلا يجرؤون على مواجهتها، فقررت التمدد والتوسع معتبرة نداءات العرب وجنوحهم إلى السلم وحرصهم عليه، علامات ضعف وتراخٍ، وأنهم لا يستطيعون لها صداً»، فكانت عاصفة الحزم زلزالاً إستراتيجياً لإيقاف الغطرسة والمد السرطاني الخطير لإيران، وإصلاح ما اعوج في الصيرورة الإقليمية والدولية للنظام العربي وكانت بداية صائبة ولا تزال للرد على الضغوط والإكراهات التي توجه إلى المنطقة.
ثم إن هاته العاصفة هي إيذان بضرورة تبني عاصفة إستراتيجية أخرى، هي عاصفة فكرية بالدرجة الأولى، تستلزم منا نحن - أهل الرأي والمعرفة -، تحالفاً فكرياً لبلورة إستراتيجية تداوي مرض العقل والواقع العربيين بوصفات استشفائية شيميوترابية لإخراج الأمة من أزماتها وللإجابة عن معضلات البناء التنموي والنهضوي والوحدوي في إطار عقلانية تعم الشكل والمضمون، والهياكل السياسية ومؤسساتها وعقلية وسلوك الجماعات والأفراد لنتموقع في الحاضر والمستقبل، ولنغير الواقع السياسي من لحظة التأزم والانسداد السياسي إلى لحظة النهوض وإقامة قواعد الأمن والاستقرار. وهذا كفيل بتبصير المجتمعات وصنّاع القرار العربي بحجم المأساة التي نعيشها والتي يمكن أن تتفاقم إذا لم تزل المسببات في الإبان.
الإصلاح العقلي الذي دعوت إليه في الكتاب هو إصلاح شامل، فهو في حاجة إلى رؤية جديدة ينظر إليها من زاوية عقلانية التنوير، والعقلانية الرشيدة والعقلانية النقدية، فالأزمة شاملة تتعدى مفاهيم الأصالة والمعاصرة، والقديم والحديث، وزوايا المنهجية والإبستمولوجيا والإيديولوجيا، إنها عطالة العقل العربي الذي لا ينفع معه طبيب الذات الفردية أو طبيب الذات الجماعية، وإنما طبيب كلي يصف دواءً شاملاً بعد تعزيزه بعلاج تشخيصي برهاني يتجه إلى عوامل السياسة والثقافة والوعي والإدراك المجتمعي، والتراث والحضارة والمؤسسات، في إطار تداوٍ بما كان يسميه قدماء الأطباء (بالسكنجبين) وهو مركب من الحلو والحامض أو من العسل... وإلخ، أو خليط من الإيديولوجية والمعرفة، من التراث والحداثة، من الماضي والمستقبل. والعاصفة الفكرية التي تطرقت إليها في الكتاب في تأثيرها الإيجابي على العقل هو إصلاح الوجود التاريخي للإنسان العربي باعتباره موجوداً متأزماً.
فعطالة الفكر والعقل العربي أديا إلى تخلف شامل، وأعني في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والتربوية، وبدلاً من الاستعانة بالعلم وبقوانينه يستعيض الفكر والمفكرون عن ذلك بخزعبلات فكرية وبأوهام إيديولوجية؛ فالجامعات في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، بدلا من أن تكون مختبرات علمية ومؤسسات هي ذروة الفاعلية المعرفية، تصبح مؤسسات بدون فائدة في تطوير المجتمعات العربية، وخلايا تجمعات طلابية وأحزاب تتصارع فيما بينها على كل التفاهات التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، لكي يتصارع البعض على عقائد وليس على الحقيقة، فالعقل والتحويل المشروطان في العقل غير متواجدين.
وهذا يعني مما يعنيه أن التفكير في العقل هو السبيل للتفكير بالعقل فلا يمكن أن نفكر في إنشاء عقل ناهض بعقل غير ناهض، بيد أننا لا نتفق مع من يقول بأن: «العلوم العربية الإسلامية، اللغوية والدينية، قد ولدت كاملة في عصر التدوين، بحيث لم تضف إليها العصور التالية أي جديد يستحق الذكر»، وأن «الزمن الثقافي العربي» زمن لا يتحرك إلا في مكانه حركة اعتماد واهتزاز تقاس بالسكون، زمن يتعايش فيه الجديد بجوار القديم، أو القول بأن الزمن الذي يعيشه العربي هو زمن واحد لا يتغير، بالرغم من تغير أحقابه وعصوره وتحرك عقارب ساعته? أليس تشخيص العقل والزمن العربي بأنه تكراري سكوني له صورة واحدة منذ بدايته إلى الآن هو أقرب ما يكون إلى وصف الزمن الحيواني منه إلى وصف زمن أمة توجد في قلب العواصف العالمية ومعترك التاريخ؟ ما معنى القول بأن «العقل العربي يتميز عن العقل الأوروبي في أن جديده لا يتخطى قديمه ولا يحل محله، وأن قديمه يظل قائماً في ذاته وبذاته على قدم وساق مع جديده»؟ أو القول بأن العقل الأوروبي يخضع للاستمرارية المتطورة بينما يخضع العقل العربي لنظرة ذرية انفصالية تسمح لعصور مختلفة أن تتعايش في آن واحد؟
وهاته التأكيدات السلبية التي لا نتفق معها ليست بعيدة عن منهجية بعض الأنتروبولوجيين الذين تناولوا بالبحث والدراسة الأنظمة السياسية العربية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكنا في مناسبات أخرى قد وجهنا انتقادات في اتجاه هاته المفارقات التي تعطى للعوامل الثقافية عوامل تفسيرية، بمعنى أن ماهية التغيير غير ممكنة في الجانب العربي تماماً كما هو شأن جزء من مشروع بعض الفلاسفة العرب الذين جمعوا بين القدرية الموغلة في تشاؤمها والإرادوية المبالغة في تفاؤلها. وسنصل من خلال قراءة مستوفية لمناهجهم إلى نتيجة شبيهة بما أتى بها عبد الله الحمودي، وهشام شرايبي في دراستهم للبيئات المجتمعية العربية إلى استحالة عملية التغيير، وحدود العقل العربي الذي وصل إلى عجز جوهري لا يمكن تلافيه ولا علاجه.
والذي يُعاب على مثل هاته المنهجيات هو سوء فهم الثقافة في مقابلتها للمجتمع السياسي (عند الأنتروبولوجيين) أو العقل (في حالة الفلاسفة كالجابري مثلاً) فمهما استحضرنا العامل الثقافي، فإنه ليس دائماً بعامل محدد كما أنه ذو طبيعة محلية وفي تطور مستمر.
العاصفة الفكرية التي نحن في حاجة إليها اليوم هي التي تكون مدفوعة بروح النقد والعقلانية الراشدة والتنويرية التي تتجاوز الصراعات والأسئلة الخاطئة والفاشلة والتقابلات العميقة، وهي التي توازن بين الرؤية الثباتية والرؤية الحركية التي تشخّص وتؤثر على الذات في نظرة تجمع بين التحليل والتركيب والنقد والإصلاح والمنهج والرؤية لبناء نظام عقلاني تنويري عربي جديد ونظام معرفي وهّاج يبعث الحياة في العقل العربي. العاصفة الفكرية التي نحن في حاجة إليها اليوم هي التي تهذب الذات من رواسب اللا عقلانية وتروّض الإنسان العربي على المفاهيم العقلانية لاستنباتها استنباتاً داخلياً.