د. عبدالحق عزوزي
قيل قديماً «الشعر ديوان العرب»... لأنه بالشعر كان العرب يسجلون تاريخهم وقيمهم ويعتبرونه ذاكرتهم، وظل يحتفظ بمكانة رفيعة بين الفنون الإسلامية، وظل ديواناً يسجل فيه الناطقون......
بالعربية تراثهم وتاريخهم ويشيدون فيه بقيمهم ويخلدون به مآثرهم وأمجادهم. قال عنه ابن منظور: «الشعر: منظوم القول غلب عليه؛ لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعراً»، وقال الفيومي: «الشعر العربي هو: النظم الموزون، وحده ما تركّب تركباً متعاضداً، وكان مقفى موزوناً، مقصوداً به ذلك. فما خلا من هذه القيود أو بعضها فلا يسمى (شعراً) ولا يُسمَّى قائله (شاعراً)، ولهذا ما ورد في الكتاب أو السنة موزوناً، فليس بشعر لعدم القصد والتقفية، وكذلك ما يجري على ألسنة الناس من غير قصد؛ لأنه مأخوذ من (شعرت) إذا فطنت وعلمت، وسمي شاعراً؛ لفطنته وعلمه به، فإذا لم يقصده، فكأنه لم يشعر به»، وعلى هذا فإن الشعر يشترط فيه أربعة أركان، المعنى والوزن والقافية والقصد. ويقول الجرجاني: «أنا أقول - أيدك الله - إن الشعر علمٌ من علوم العرب يشترك فيه الطبعُ والرّواية والذكاء».
أما فائدته، فهو كما سلف ديوان العرب وسجل أحسابهم وأنسابهم وأيامهم ومستودع حكمتهم وبلاغتهم، قال عنه الجرجاني أنه: «فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب، وإنه مجنى ثمر العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد من الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار الماضيين مخلدة في الباقين، وعقول الأولين مردودة في الآخرين، وترى لكل من رام الأدب وابتغى الشرف وطلب محاسن القول والفعل مناراً مرفوعاً، وعلماً منصوباً، وهادياً مرشداً، ومعلماً مسدداً، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر والزاهد في اكتساب المحامد داعِياً ومُحَرِّضاً، وَلاعِثاً وَمُحَضِّضاً، وَمُذَكِّراً وَمُعَرِّفاً، وَواعِظاً وَمُثَقِّفاً». وقال عنه المظفر بن الفضل: «أما الشعرُ فإنه ديوان الأدب، وفخر العرب، وبه تُضرَب الأمثال، ويفتَخِر الرّجالُ على الرجال، وهو قيدُ المناقبِ ونظامُ المحاسنِ، ولولاهُ لضاعَتْ جواهرُ الحِكَم، وانتثرت نجومُ الشّرَفِ، وتهدّمتْ مباني الفضل، وأقوَتْ مرابِعُ المجدِ، وانطمسَتْ أعلامُ الكرمِ، ودرَستْ آثارُ النِّعَم. شرَفُه مخلّدٌ، وسُؤدُدُه مجدّدٌ، تَفْنى العصورُ وذِكرُه باقٍ، وتهوي الجبالُ وفخرُه إلى السماء راقٍ، ليس لما أثْبَتَه ماحٍ، ولا لمَن أعذَرَه لاحٍ».
وقال معاوية رضي الله عنه: يجب على الرجل تأديب ولده، والشعر أعلى مراتب الأدب، وقال: اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر دأبكم، ويروى أن زياد بعث بولده إلى معاوية، فكاشفه عن فنون منِ العِلم، فوجده عالماً بكل ما سأله عنه. ثم استنشده الشعر، فقال: لم أَرْوِ منه شيئاً. فكتب معاويةُ إلى زياد: ما منَعك أن تُرَوِّيه الشعر؟ فوالله إن كان العاقّ لَيَرْويه فَيبرّ، وإن كان البخيل لَيَرْويه فيسخُو، وإن كان الجبان لَيَرْويه فيقاتل، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «أفضلُ صِناعات الرَّجل الأبيات من الشِّعر، يُقدِّمها في حاجاته، يَستعطف بها قلبَ الكريم، ويستميل بها قلب اللئيم.» ونحن نتوقف عند هاته التعاريف والمقولات الخالدة، استوقفني كتاب قل نظيره للدكتورة عذبة خليفة شاهين الغفلي من دولة الإمارات العربية المتحدة بعنوان.»الرؤيا والتشكيل في الشعر الإماراتي المعاصر»، والكتاب روعة في الوصف والجمع والتحليل والنقد، وهو غاية ما يمكن أن يصبو إليه كل باحث. ومما يصنع فرادة ونوعية كتاب الدكتورة الغفلي ما تنطوي عليه ثقافة الكاتبة وذكاؤها من موسوعة وثراء عزت لها النظائر -إماراتياً وخليجياً وعربياً - ومما يصنع لها حرارتها وصدقها التزام خريجة الجامعة الإماراتية والعربية قضايا وطنها وأمتها، فغذت مع نساء قلائل في وطننا العربي صاحبة مشروع بأتم معنى الكلمة، وهو المشروع القائم على البحث والتنقيب المعمق والمدجج بقوة الأسلوب وعظمة الفكرة والاستشهاد.
أعرف الشعر الإماراتي جيداً بحكم معرفتي الخاصة بقيدوم الشعراء في الإمارات الدكتور مانع سعيد العتيبة، وهو كما كتب عنه ماجد نور الدين، أحد أهم الشخصيات العربية التي جمعت بين العمل الدبلوماسي والاهتمام الإبداعي، ففي الوقت الذي انشغل فيه بالعمل في مجال السياسة وفي قطاع البترول.. كانت شعلة الإبداع تعلو في فضاءات الشعر والنثر، كي يذكرنا بعمر أبي ريشة ونزار قباني وصلاح عبد الصبور والمكسيكي اوكتافيو باث وحيدر محمود في الأردن وغيرهم ممن جمعوا بين متاعب الدبلوماسية وامتيازاتها وفيوضات الحرف المبدع، لذلك فإن الحديث عنه له مذاق ونكهة خاصة. ذلك لأننا نتناول مسيرة مبدع هو أشبه بموسوعة متحركة في الأدب والثقافة وعالم الكلمة والسياسة والاقتصاد. كما أننا أمام شاعر تيسرت له جميع وسائل التعلم والتثقف والاطلاع على تنويعات من الثقافات في الشرق والغرب، كل هذه المعطيات مضافاً إليها خياله الواسع وتجربته الرصينة مكنته من تأكيد حضوره كمبدع عربي له تأثيره على حركة المشهد الثقافي العربي. وإذا كانت القصيدة العربية في ديوان الشعر العربي كثيراً ما خضعت للسلطة والمال، فإن السلطة والمال عند العتيبة هما اللذان حملا القصيدة فوق أكتافهما وجعلاها تنعم بالتمرغ في الفراش الوثير. لقد حمل العتيبة العبء الوزاري وهو في الثالثة والعشرين من عمره ولمدة 30 عاماً متصلة، والجميل أن ذلك لم يجعله طائراً مهاجراً من عالم الشعر والإبداع إلى عالم الذهب الأسود.. ولعل ذلك ما أسهم في تحويل عالم البترول والاقتصاد واجتماعات منظمة «أوبك» العالمية ومنظمة «أوابك» العربية إلى مناخ شعري استثنائي دفع إليه الشاعر الوزير بالقصيدة لكي تؤدي دوراً تحسسياً إعلامياً تسجيلياً تاريخياً.....
ولقد توقفت الدكتورة عذبة الغفلي عند كل جوانب الرؤى في الشعر الإماراتي المعاصر من رؤيا الإنسان الفرد، كما تجسد في الحب والمديح والرثاء، والرؤيا الاجتماعية والرؤيا الإنسانية والرؤيا السياسية والرؤيا الدينية، وتوقفت كثيراً عند التشكيل الفني وعناصره في جوانب اللغة والأسلوب والتراث والصورة الشعرية ووسائل تحقيقها والإيقاع..
وكلما كنت في دول الخليج خاصة في دولة الإمارات العربية المتحدة أو في المملكة العربية السعودية وفي مناسبات عدة إلا وتستوقفني الحمولة التاريخية والأدبية والفكرية لنوع من القصائد، وأعني بها القصيدة النبطية وغيرها. ولعل بعض القصائد التي قيلت في افتتاح مهرجان الجنادرية الأخير بحضور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان أفضل مثال على ذلك، إذ ألقى الشاعر، مشعل الحارثي قصيدة مؤثرة، ومما جاء فيها:
سلام واستعداد مبدأ ومدخال
تحية الإسلام بالعسكرية
أقدم بها جندي ورجلي وخيال
من ريحة البارود والشاعرية
يومأ كريم وجمعة أحباب وقبال
من ابرك الساعات ساعة مجيه
الليلة المحفل على نجد سلسال
معقود بين رياض وجنادريه
الليث حيث الليث والغيث همال
وديارنا دار مريف وفتية
غصب على خشوم العدا طرق وعقال
المملكة في حماه وحرة وأبيه
في ظل من هو حاكما عاقدا حال
قولي هلا حييت ياطيب الفال
مولاي يا سلمان يالله حياه
وقولي لعبدالله مداهيلك ظلال
عقبك حفظ متعب عليها الوصية
أنا الحرس وأنا مضاريب الأمثال
بالهجن ولا ضربة المدفعية
من جيشك المنصور شاعر ومرسال
لا شك مندوبك من الداخلية
حنا الدلايل فالهوايل والأفعال
ومسطرين المجد بالأولوية
حنا السعوديين بثياب وبدال
في ضيافة التاريخ صبح وعشية
ربعي أهل التوحيد عالو لمن عال
قرو عليه الفاتحة والتحية
يا دارنا دار المكارم والبطال
الشعب كله قيس يا عامريه
انتِ لحال وساير الأرض بالحال
يامن عليك وفيك خير البرية
محبتك ما هي سواليف جهّال
ياغالية ياسالفة والديه
والله ما يخونك من الذات رجال
الا خبيثين الهواء والهوية
السيف خلي فيهم السيف شغال
الطب ضربة عنق ماهوب كيه
دارا عليها يلبس العز سربال
ومروجنة والسيف والبندقية
اعرضبها ياحضرة النايف العال
يا على ملك بالساحة العالمية
سلمان لا قبلك ولا بعد ولآل
اسياد يعرب غير فيتك فيه
وأمة محمد كلها لأشهب الآل
المسلمة والأمة اليعربية
أنت الفخر وانا على كل الأحوال
قصيدتي جيتك بها في ايديه
والقصيدة النبطية للذكر ليست وليدة الساعة، فهي قديمة قدم منطقة الجزيرة العربية وإلى عصر ما قبل الإسلام، وامتدت ما بين مد وجزر بحسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وهذا المفهوم بالطبع يشمل الإمارات وغيرها على اعتبار أن التواصل بين دول الخليج العربي نابع من صلة الروابط ووحدة المكان/ الصحراء المترامية. وحول نظمه للقصيدة النبطية يقول مثلاً الدكتور مانع: «بدأت كتابة الشعر النبطي بعد أن توليت وزارة البترول والثروة المعدنية في الإمارات في بداية السبعينات، وأن تجربتي استندت في تنوعها إلى قراءاتي الشعرية للشعراء العرب عبر العصور الأدبية المختلفة.. علاوة على الشعراء العرب في مطلع القرن الماضي أمثال: معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي من العراق، وأمير الشعراء أحمد شوقي في مصر، وغيرهم من الشعراء البارزين، وكلما سنحت لي فرصة قرأت لشعراء النبط أمثال الشاعر الإماراتي ابن ظاهر، إلى جانب قراءاتي السابقة للشعراء من أيام بني هلال، وأنا شخصياً أكن لكل شعراء النبط كل تقدير واحترام».
وما بين بنية القصيدة النبطية والقصيدة التقليدية ثمة قافية أو وزن شعري، وفي هذا السياق يقول العتيبة: (إن كل القوافي نابعة من البيئة والتراث ضمن بحور شعرية تنفرد فيها القصيدة النبطية ببحرين هما: «الردح والونة»، وهما بحران يساعدان على توظيف اللهجة المحلية الدارجة في إنتاج صورة شعرية نبطية يمكن ترديدها من قبل فئات مختلف الناس.. إن القوافي هي ذاتها في كل الأشعار، ولكن يستخدم فيها لزوم ما يلزم، وتأخذ القصيدة النبطية قافيتين تستثمر كل شطرة بيت قافية مستقلة تتميز فيها عن القصيدة الفصحى التي لا يتوافر لها مثل هذا التكنيك العروضي).
إن كتاب الدكتورة عذبة الغفلي سيبقى مرجعاً لا محيد عنه لمن أراد أن يفهم ويتبحر في عالم الشعر الإماراتي الجذاب، ولعل هذا يبرز قدرة المرأة الخليجية والإماراتية من ولوج حقل لطالما أراد الرجال الأفاضل الاستفراد به.