د.عبدالله مناع
يذكِّرني مَقدم ربيع هذا العام (2016م).. بربيع العام الماضي و(اثنينيتيها)، اللتين كانتا وكأنهما آخر (اثنينياته).. واللتان عُقدتا للاحتفاء بالأديبين: الأستاذ الدكتور عبدالله الفيفي.. الأديب والشاعر وأستاذ النقد الأدبي بجامعة الملك سعود سابقاً، وعضو مجلس الشورى لاحقاً..
صاحب الرسالة المتميزة في انتقاء موضوعها: (الصور البصرية.. في شعر العميان)!! التي حصل بها على درجة الدكتوراه عام 1996م، والتي آمل.. أن يعيد طباعتها منفصلة عن السلاسل الجامعية، التي عادة.. ما تترك إيحاءً لدى عامة القراء بأنها للمتخصصين والساعين للحصول على درجتي (الماجستير) أو (الدكتوراه).. بأكثر من سواهم، لتقديمها في معرضي الرياض أو جدة لـ(الكتاب) القادمين، والأستاذ الدكتور (واسيني الأعرج).. الأديب والروائي الجزائري الأصل، والفرنسي الجنسية والإقامة والعمل والهوى!!
لقد توقفت (الاثنينية) بعدهما فعلاً.. إثر الإعلان عن (عاصفة الحزم) وانشغال الوطن كله بمجرياتها ونتائجها أو احتمالاتها وتداعياتها.. من جانب، ولتوعك صحة نجم الاثنينية ومؤسسها: الشيخ والأديب (عبدالمقصود خوجة).. الذي تزامن مع الإعلان، بل وسبقه - بثلاثة أسابيع أو أكثر - من جانب آخر.. عندما لم يتمكن من المشاركة - حضورياً - في تلك الاثنينيات الثلاث الأخيرة.. متخلياً حتى عن إلقاء كلمته الافتتاحية التي أعرف حرصه على إعدادها وضبطها لغوياً، ليصدح بها في افتتاح ليل الاثنينية.. حتى أصبحت (مقدمتها) الجميلة.. التي يستهلها بـ(بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلي وأسلم على خير خلقك: حبيبك وصفيك.. سيدنا محمد وعلى آل بيته الطاهرين، وصحابته الميامين).. جزءاً من طقس ليل الاثنينية الجميل، ليتلوها نيابة عنه ابنه المهندس محمد سعيد عبدالمقصود خوجة.. وسط تساؤلات حضور الاثنينية الهامسة: عن أسباب تخلف الشيخ عبدالمقصود.. مقرونة بقلقهم وخوفهم على صحته؟ التي ألزمته - فيما بعد - بالسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. طلباً للعلاج فيها.. مع دعوات رواد الاثنينية له بالشفاء، والعودة سالماً.. لتستأنف (الاثنينية) لياليها، وتسطع أضواؤها، ويتجدد حضورها.. لتواصل (ليالي) تكريمها التي امتدت لـ(502) من رواد الفكر والأدب والشعر والرواية والمسرح والتشكيل.. من المملكة والعالمين العربي والإسلامي، و(ليالي) استضافاتها التي لا حصر لها للمثقفين والمبدعين والكتّاب والجمعيات.. بل ونجوم الأعمال الخيرية والإنسانية في شتى مجالاتها.. حتى أصبحت (الاثنينية) علم أعلام الصوالين الثقافية في المملكة، إن لم يكن في العالم العربي كله.. على اتساعه!
* * *
على أي حال.. ليس مَقدم الربيع وحده.. هو الذي ذكّرني بـ(ليالي الاثنينية) الأخيرة.. قبل توقفها، ولكنها تلك الليلة - ما قبل الأخيرة - التي كان نجم تكريمها الأديب والروائي الدكتور واسيني الأعرج: (الأستاذ) بجامعتيْ (الجزائر المركزية) و(السوربون) الفرنسية.. والتي فاجأتني بقدر ما أسعدتني..؟!
فقد فاجأتني بـ(اسم) نجمها تلك الليلة.. وبحضورها غير العادي من الجنسين.. وبـ(أعداد) المتحدثين والمتحدثات عن (الدكتور واسيني) وأعماله الروائية ومواقفه وآرائه.. بل وحكايات طفولته.. كتلك التي رواها برشاقة الشاعر إبراهيم الجريفاني، والتي كان من أطرفها قوله: عندما ذهب (واسيني) طفلاً لتعلُّم القرآن واللغة العربية في مسجد قريته (سيدي بوحنان) بناءً على نصيحة وإصرار جدته.. كانت (المصاحف) قليلة، وقد تخاطفها زملاؤه الذين سبقوه إلى المسجد، فلم يبق منها غير نسخة واحدة مهترئة، فأخذها وعاد بها إلى البيت.. وأخذ يقرأ فيها حتى حفظها عن ظهر قلب.. ليكتشف فيما بعد بأنها نسخة من كتاب (ألف ليلة وليلة)، إلا أنه عاد - بعد أن دارت الأيام والسنين وأصبح الكاتب والأستاذ الجامعي - إلى (مسجد بوحنان) لترميمه وعمارته بعد حصوله على جائزة (الشيخ زايد للآداب) عام 2007م، كما حاول إعادة نسخة (ألف ليلة وليلة) بعد أن قام بترميمها وتجليدها.. إلى حارس المسجد.. باعتبار أن ما فعله في طفولته كان (سرقة) صريحة، لكن حارس المسجد رفض وقال له: إنّ هذا الكتاب.. هو (الذي أعطاك الحياة ومنحك الكتابة. ويكفي أنك رممت المسجد، وأنا أفضل أن تترك الكتاب عندك.. فهو في مكان مأمون)..!!
أما مبعث سعادتي.. في تلك الليلة، فقد كان لنجاح سكرتارية (الاثنينية) في الوصول إلى الدكتور واسيني، ودعوته.. فوصوله إلى منصة (الاثنينية) على تلك الصورة التي رأيته عليها ولأول مرة، وهو يعتمر قبعة فرنسية، ويلف جسده بـ(بلاطي) من الصوف الثقيل.. وإلى جواره حقيبتان.. وكأنه سائح ذاهب إلى (هلسنكي) في أقصى الشمال الأوروبي التي يلتهم شتاؤها ربيعها، وليس قادماً إلى جدة التي يلتهم صيفها ربيعها، إذ لولا هيئته تلك لما تعرفت عليه بسهولة.. وسط القناصل والملحقين الثقافيين الذين يحرصون مشكورين على المشاركة في ليالي الاثنينية.. ويملأون نصف مقاعد المنصة على الرحب والسعة، فلم أكن قد تعرفت من قبل على الدكتور واسيني شخصياً.. ولا على قلمه الروائي، الذي حصد كل هذه الجوائز العربية والفرنسية والجزائرية.. التي تحدثت عنها سيرته الذاتية في مطلع الليلة.. وكأن (السياسي) فيما كتبه أدباء وكتّاب المغرب العربي بصفة عامة.. من مغاربة وجزائريين وتوانسة، والذي كنت ألتهمه ولا أقرؤه.. ككتاب (العتمات الباهرة) للطاهر بن جلون.. مثلاً، قد شغلني عن ما هو (أدبي) في كتاباتهم، ولم يكن الدكتور واسيني ممن يخوضون في السياسة مباشرة، إلا أن أعماله الروائية - التي قدر لي أن أطلع على بعضها - كانت تحت سمائها وظلالها.. ليظل شعوري بفداحة تقصيري.. قائماً!! وإن برر أسبابه الدكتور واسيني بـ(كياسة) ودبلوماسية عندما قال في رده على أحد الأسئلة التي انهالت عليه: بـ(أن كُتّاب (المغرب) لم يُنتبه لهم في (المشرق) العربي، وربما هذا ناتج عن تقصير من المغاربة.. لأنهم لم يعرفوا كيف يسوقوا كتبهم هنا)!! ولم يكن ذلك منه.. إلا مجاملة أملتها روحه (المتسامحة) التي عرفها قراؤه من قبل وأدركها حضور تلك الليلة من بعد!!
* * *
بعد أسابيع قليلة من تلك الليلة.. كانت بين يدي واحدة من رواياته المبكرة (طوق الياسمين)، التي كتبها في عز سنوات شبابه.. وهو في السابعة والعشرين من العمر، وصدرت طبعتها الأولى في بيروت من عام 1981م، ولتفردها.. باعتبارها - ربما - أول رواية تعتمد على الرسائل المتبادلة بين أبطالها العاشقين وكما أشار عنوانها (المساند): (رسائل في الشوق والصبابة والحنين).. فقد أعيدت طباعتها مرتين (2001م و2006م)، وهي رواية أول ما يلفت النظر فيها هو اكتنازها وحميميتها.. وامتلاؤها بتفاصيل التفاصيل.. التي لا يخلو بعضها من (غموض) جذاب..! إلا أنه يتضح من الغوص في أعماقها.. أنها تروي قصة خمسة من شباب وشابات الجزائر جمعتهم دراستهم للثانوية في الوطن، ثم ذهبت بهم دراستهم الجامعية إلى (دمشق) حيث جامعتها العتيدة، ثم تفرقت بهم محطات العودة من (دمشق).. بين وهران وباريس.
ولكن العجيب في هذه (الرواية) أنها تبدأ من المقبرة.. تبدأ من (الموت).. من (النهاية) إلى (البداية).. إلى الحياة وتفاصيلها وأحداثها: فرحاً وحزناً.. من (سيلفيا) التي تتردد على المقبرة صباح كل جمعة.. لزيارة حبيبها (عياد عشاب) الكاتب والفيلسوف والفنان الذي لم تقترن به.. لأنّ والدها (المسيحي) رفض ذلك، ثم يعقب ذلك زيارة قبر صديقتها (مريم).. التي لم تقترن هي الأخرى بمن تحب - وهو بطل الرواية وربما كاتبها -!!، لترى الشاهد الذي كتبه حبيبها على قبرها: (ضيقة هي الدنيا. ضيقة مراكبنا. للبحر وحده سنقول: كم كنا غرباء في أعراس المدينة). لتودع المقبرة بالنظرة المائة أو الألف على شاهد قبر (عياد عشاب):
(عاش ما كسب، مات ما خلَّى)!!
أما (طوق الياسمين).. الذي حملت الرواية اسمه، فلا تدري من خلال لغة توصيفه الأسطورية الميتافيزيقية بين النور والبلور والنوارس ومنابع الزبداني ومصبات بردى: إن كان حقيقة.. أم خيالاً.. أم أسطورة صنعها قلم كاتبها ببراعة؟!
لتبقى تلك الليلة ما قبل الأخيرة من ليالي الاثنينية.. ليلة سفارة ثقافية: أرضها فناء الاثنينية.. ونجمها الأستاذ الدكتور واسيني الأعرج.