د.عبدالله مناع
لم يبق للرئيس الأمريكي - الرابع والأربعون - للولايات المتحدة الأمريكية: باراك أوباما في (البيت الأبيض).. إلا ثمانية أشهر، يتحول معها في الثامن من نوفمبر القادم.. عند انتخاب الرئيس الجديد - الخامس والأربعون - إلى رئيس لا يملك من أمره وقراره شيئاً..
..طوال اثنين وسبعين يوماً، يغادر في ختامها - يوم العشرين من يناير من عام 2017م - البيت الأبيض.. لـ(خلفه) الجديد - الذي قد يكون «بيرتي ساندرز» أو «هيلاري كلينتون».. إن كان ديمقراطياً، أو «دونالد ترامب» أو «تيد كروز».. إن كان جمهورياً -!!ولذلك.. فقد هالني هذا الهياج الصحفي أو الإعلامي عموماً.. الذي استُقبل به حديث أوباما (لمجلة أتلانتك)، والتصريحات والتعليقات التي أطلقها في ذلك الحديث.. والتي كان بعضها يكشف عن رؤيا سياسية عميقة وإن لم ترض أهواء البعض وتوجهاتهم، كما هالني وبذات القدر ذلك النقد لسياساته الخارجية في الملفات الدولية جميعها.. إن كان في الملف الروسي أو التركي أو الإيراني النووي أو السوري أو الأفغاني أو الكوري الشمالي أو الليبي أو المصري أو اليمني - باستثناء ملف الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.. الأهم الذي مروا به مرور الكرام - التي أودت بـ(مكانة) الولايات المتحدة إلى ما هي عليه الآن، وجعلت منها لاعباً هامشياً على الساحة الدولية.. بعد أن كانت تتصدرها بكل جدارة!! إلى جانب ذلك النقد الشخصي الموجع لـ(أوباما).. والذي لا يستحقه مهما كانت درجة الغضب منه أو عليه.. باتهامه بـ(المثالية) من باب الاستخفاف به وليس التعظيم له.. أو (النرجسية) من باب التحقير لا التقدير.. أو (التردد) في اتخاذ (القرار)، أو أخذه اليوم.. والرجوع عنه غداً!! وكما قالت هيلاري - التي يُخشى على حياتها.. إن لم تفز بترشيح (الحزب) والرئاسة الأمريكية معاً!! - عندما قالت عن من جعل منها وزيرة لخارجيته لأربع سنوات -: إن له رأياً يوم (الاثنين).. وآخر يوم (الثلاثاء).. وربما ثالث يوم (الأربعاء)!! وهو ما يضع إدارته موضع تساؤل.. بينما الحقيقة غير ذلك، وعكس ذلك تماماً!
إن عيب هذا الهياج الصحفي على (أوباما) وحديثه.. وهذا النقد الإعلامي اللاذع له، والذي كان معظمه عربياً.. بقدر ما كان غربياً، والمعبر عن طموحات أصحابه وأحلامهم.. أنه جاء متأخراً.. وقبيل نهاية دورته الثانية والأخيرة في البيت الأبيض بـ(ثمانية) أشهر، وهو ما يدعوني للقول منطقياً.. بأن ما لم يتحقق في ثمانية أعوام لا يتحقق في ثمانية أشهر بطبيعة الحال!!.. إلا أن الاستثناء يبقى وارداً في إنجازه..حتى ولو في الثمانية أسابيع الأخيرة من ولايته..!!
* * *
لقد عاب بعض منتقدي (أوباما).. أنه كان مشغولاً طوال سنواته السابقة في البيت الأبيض بـ(ذاته)، و(تخليد) اسمه في صفحات التاريخ الأمريكي.. باعتباره أول رئيس أمريكي أسود يدخل إلى البيت الأبيض، ويشارك في إدارة العالم.. فما الغرابة في أن يسعى لـ(تخليد) اسمه؟ وما الغرابة في أن تكون قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التاريخية - أو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية - هي ممره إلى صفحات الخلود..؟!
لقد فعل ذلك من قبل.. سلفه الديمقراطي الأعظم الرئيس: (جون كيندي) عندما حاول - في مطلع الستينيات - عبر رسائله الحازمة لطرفي الصراع العربي/ الإسرائيلي.. كما كانت صورته آنذاك بعد حروب عام 48م بين العرب واليهود وإن دفع حياته ثمناً لذلك السلام الذي لم يتحقق، ثم كرره من بعد سلفه الأنبل الرئيس الديمقراطي (جيمي كارتر).. فلم يستطع أن ينجز إلا سلاماً بارداً بين المصريين والإسرائيليين، هو سلام (كامب ديفيد) الذي كانت الطنطنة الإعلامية حوله.. أكبر من حقيقته على أرض الواقع، وكتاباً تاريخياً وثائقياً بـ(الكلمة) والصورة.. عن وحشية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.. هو: سلام فلسطين لا الفصل العنصري (PALASTINE PEACE NOT APARTHEID)، ثم قام خلفه الرئيس -الثاني والأربعون- (بيل كلينتون) بخطف السلام النرويجي المعروف بـ(أوسلو).. الذي أنجزه وزير خارجية النرويج (جوهان هولست)، والذي كان رجلاه: الزعيم ياسر عرفات.. من الجانب الفلسطيني، ورئيس وزراء حزب العمل الإسرائيلي: إسحاق رابين.. الذي فقد حياته على يد إرهابي إسرائيلي.. ثمناً لذلك السلام، ثم قتله (كلينتون).. في نهاية دورته الثانية عام 2000م، فما الغرابة في أن يحذو (أوباما) لتخليد اسمه أمريكياً ودولياً.. حذو هؤلاء الرؤساء الثلاثة..؟! أو ما الغرابة.. في أن يسعى وينجح في إغلاق آخر ملفات الحرب الباردة بين معسكري الرأسمالية والاشتراكية.. بـ(إعادة) العلاقات مع (كوبا)، واستقبال سفيرها في واشنطن وإرسال نظيره الأمريكي إلى (هافانا)..؟!
إن الذي يعاب على الرئيس أوباما في ملف القضية الفلسطينية - وهي أم القضايا -.. أنه تقاعس بعد أولى رحلاته التي قام بها - كرئيس أمريكي جديد - إلى (القاهرة).. وليس إلى لندن أو برلين أو حتى باريس، وخطابه الأشهر في جامعتها - في الخامس من يونيه من عام 2009م - المندد بـ(الاحتلال) الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والمنصف لـ(الحق) الفلسطيني في الحرية والدولة، ثم انشغل عنه بـ(الملف الإيراني) النووي حتى يكون على مقاس الأمن الإسرائيلي ومتطلباته!!.. طيلة ولاية (هيلاري) للخارجية الأمريكية، ليعود إليه مع (جون كيري).. ومحادثاته الماراثونية بين (نتنياهو) و(عباس) طيلة عام 2013م وأوائل عام 2014م، والتي خذله في نهايتها (كيري).. عندما لم يفصح عن مشروعه الذي استخلصه من تلك المحادثات الماراثونية لعرضه على (الطرفين).. بل فضل (الصمت)، الذي حذا حذوه (أوباما) ليكون - بعد ذلك كله - بحق الرئيس الأمريكي (الجديد).. الذي جاءت به حملة (التغيير) الانتخابية إلى (البيت الأبيض)..!!
* * *
لقد انتقل ملف القضية الفلسطينية.. التي يشكل إنجازها وإنهاؤها (مجداً) لا يقاس بغيره، والذي مايزال (أوباما) يحرص على (الفوز) به.. إلى أصحابها، من خلال سعيهم وشيك النجاح في استصدار قرار من مجلس الأمن يعترف بـ(الدولة الفلسطينية) تطبيقاً لمبدأ (حل الدولتين) الذي أقره المجلس سابقاً.. ولـ(فرنسا) - على الجانب الآخر - من خلال مشروع دعوتها لعقد مؤتمر دولي لـ(السلام) في شهر يوليه القادم لإنفاذ وإنقاذ (مبدأ حل الدولتين)، فإذا تعثر أو تعذر.. خروج هذا المؤتمر بـ (إعلان) تطبيق مبدأ حل الدولتين، فإن فرنسا ستعترف بـ(الدولة الفلسطينية)!؟ وهو ما جعل (نتنياهو).. يصيح عبر الأقمار الصناعية من (تل أبيب) - وحمى سباق التأييد لـ(إسرائيل) تجري في واشنطن على قدم وساق بين المرشحيْن: الجمهوري «ترامب» والديمقراطية «هيلاري».. للفوز بتسمية كليهما لخوض الانتخابات النهائية في الثامن من نوفمبر القادم - مستنجداً بالإدارة الأمريكية (في أن تواصل رفض أي تحرك نحو إصدار الأمم المتحدة قراراً يؤيد إقامة دولة فلسطينية).. وأنه (مستعد لأن يبدأ محادثات بشكل فوري، وبلا شروط مسبقة، للتوصل إلى حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يقوم على أساس وجود دولتين!! لكن الرئيس محمود عباس لا يؤيد هذه الفكرة).. لأن (لعبة) التفاوض هذه التي برع فيها (نتنياهو) تمطيطاً وتطويلاً وتوقفاً وتأجيلاً والتي امتدت به وبـ(حكومته) لأكثر من عشر سنوات.. هي أبرع وسيلة للتخلص من فكرة (حل الدولتين) من وجهة نظر (نتنياهو)، فهو لا يعلن عن رفض الفكرة.. حتى لا يلام أمام المجتمع الدولي أو يعاقب دولياً، وهو لا ينفذها.. انتظاراً للانتهاء من بحث كامل ملفات التفاوض، التي تجاوزت العشرين عاماً في آخر مراحلها.. ولم تنته بعد!!
* * *
لتعود القضية الفلسطينية للمرة المئة أو الألف.. إلى مجلس الأمن فـ(المؤتمر الدولي الفرنسي) المزمع عقده في شهر يوليه القادم وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى (الفيتو) الذي ينتظره نتنياهو.. وإلى (القرار) الذي ينتظره العالم من الرئيس أوباما وهو يعيش شهوره الثمانية الأخيرة في البيت الأبيض، ليكون رابع الثلاثة العظام: جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وإبراهام لينكولن!
إنها لحظة المواجهة مع (الحقيقة)، التي يرقبها العالم.. بأمل وخوف، والتي سيقف معها التاريخ، ليكتب في صفحة ناصعة من صفحاته: إنه كان هناك رئيساً أمريكياً من أصول أفريقية سوداء اسمه (باراك أوباما).. صنع في مطلع الألفية الثانية (سلاماً)، لم يتأت لأحد من قبل، وساعتها سيحمل ناقدوه اليوم.. صوره فوق صدورهم، ويسيرون بها في شوارع الكون..!