د.عبدالله مناع
كاد يمنعني.. عدم حضوري لـ(معرض الرياض الدولي للكتاب): زائراً أو مشاركاً أو متحدثاً في إحدى فعالياته.. عبر محاضرة أو ندوة أو حتى زيارة عابرة له.. من الكتابة عن دورته لهذا العام، التي انتهت يوم أمس، ولكن معاصرتي لهذا المعرض.. منذ دورته
الأولى، وبداياته الوجلة عند افتتاحه لأول مرة.. قبل عشر سنوات أو يزيد بـ(إدارة) وزارة التعليم العالي -أيام وزيرها الفذ الدكتور خالد العنقري- أو تحت رعايتها.. إلى حين انتقالها لـ(إدارة) جامعة الملك سعود لعام أو عامين.. إلى حين استقرارها -أخيراً- بين يدي وزارة الثقافة والإعلام وتحت إشرافها المباشر، بعد صدور قرار المقام السامي بإنشاء وزارة لـ(الثقافة)، وضمها إلى (الإعلام).. وتغيير مسمى (الوزارة) تبعاً لذلك ليصبح: وزارة الثقافة والإعلام.. فيكون أول وزرائها بـ(الانضمام).. هو وزير الإعلام الأسبق (الدكتور فؤاد عبدالسلام فارسي)، الذي تعاقب على موقعه فيما بعد كـ(وزير للثقافة والإعلام) كل من الأستاذ إياد مدني فالدكتور عبدالعزيز خوجة اللذين شهدت سنواتهما تطورات متلاحقة عاشها معرض الرياض الدولي للكتاب.. حتى غدا في سنواته الخمس الأخيرة -الماضية-: مهرجاناً ثقافياً اجتماعياً.. سنوياً، تنتظره العاصمة (الرياض) وما ومن حولها كل عام.. يتيح لي -فيما أحسب- ما لا يتيحه لغيري، وقد يبيح لي -من فسحة القول- ما لا يبيحه لغيري..؟!
***
لقد كان طبيعياً أن تشهد معاصرتي الطويلة لـ(المعرض) بامتداد سنواته.. تلك النقلات الكبرى في حياته: (مكانياً).. عندما كان يتنقل من موقع إلى آخر.. وإلى أن استقر به المقام في أرض المعارض هذه بـ(رحابتها) وسعتها، وتصميمها الفاخر الذي قدم حلولاً معمارية لكل أطراف (المعرض).. من الإدارات الحكومية، ودور النشر المحلية والعربية والأجنبية، والمؤلفين ومنصات توقيعهم.. إلى جانب قاعات المحاضرات والندوات، وساحات اللقاءات الإذاعية والتلفزيونية والصحفية، والبوابات والممرات.. الكثيرة الواسعة للزائرين والزائرات من الأفراد والأسر.. حيث يجد الجميع في مجمعات الأطعمة بداخل (المعرض) كل ما يحتاجونه من طعام أو شراب حتى لو أمضوا سحابة نهارهم كلها في (المعرض).. إلى جانب مقهاه الثقافي المفتوح وغير المسقوف للمدخنين من المثقفين والأدباء والمفكرين، الذي لم أنس لقائي فيه بصحبة أديبنا الناشر الأستاذ عبدالله الماجد.. صاحب (دار المريخ) الرائدة في النشر محلياً ودولياً.. بـ(الأديب) الجريء: الأستاذ عبدالله بن بخيت.. ليحدثنا عن روايته الأجرأ: (درب العطايف)..!
كما كان طبيعياً.. أن تشهد معاصرتي لـ(المعرض).. تلك (الأولويات) الرائدة التي سجلها العقد الأول من حياته: كـ(أمسية الإصدار الأول) في العام الرابع من دوراته.. حيث دعي للحديث فيها عن تجربتهم مع إصدارهم الأول الذي مضى عليه ثلاثون أو أربعون عاماً.. عدداً من الأدباء والشعراء كان في مقدمتهم الأديب الفنان والشاعر الإنسان المرحوم الدكتور غازي القصيبي، الذي تحدث -أو تحدث عنه أحدهم- عن إصداره الشعري الأول: (أشعار من جزائر اللؤلؤ) الذي صدر له في (بيروت) عندما كان طالباً في جامعة القاهرة عام 1960م.. كما تحدثت فيها عن كتابي (لمسات) الذي صدر في (القاهرة) عام 1960م.. عندما كنت طالباً في جامعة الإسكندرية، أو كـ(أمسية تجربة كتابة السيرة الذاتية).. التي دعيت للمشاركة فيها بعد إصدار كتابي (بعض الأيام.. بعض الليالي) في العام الخامس من دورة المعرض، أو كـ(إطلاق) أسماء الأدباء الرواد في المملكة عموماً وفي منطقة نجد خصوصاً من أمثال علامة الجزيرة: شيخنا الحبيب الشيخ حمد الجاسر.. والأديب الناقد الشيخ عبدالله بن خميس.. والشيخ الشاعر والأديب الأستاذ عبدالله بن إدريس، الذي علمت أنه جرى استبدال أسمائهم على تلك الممرات -في هذا المعرض- بأسماء شوارع ومناطق الرياض القديمة كـ(شارع الثميري) و(شارع الوزير) ومنطقة (البطحا).. وهي أسماء معروفة لشوارع ومناطق في الرياض لا تزال قائمة، ولا يرفع من قيمتها وضعها على ممرات المعرض.. بقدر ما يهبط بقيمة المعرض حذف أسماء أولئك الرواد.. واستبدالها..!! أو كتلك (الأولوية) الرائعة بـ(إقامة) ما عرف فيما بعد بـ(الإيوان الثقافي) الذي كان يعقد مساء كل ليلة من ليالي المعرض.. بالقاعة الأرضية الكبرى لفندق (ماداريم) الذي كان يضم ضيوف المعرض من الأدباء والمثقفين والناشرين القادمين من خارج الرياض والمملكة.. ليتداولوا الرأي والرؤى حول هموم الثقافة، وأحلام المثقفين.. بحضور قيادات الوزارة من الدكتور الجاسر إلى الدكتور السبيل إلى الدكتور الحجيلان، وبقيادة (عريف) الإيوان الشاعر الفنان الأستاذ محمد عابس، الذي علمت باختفائه أيضاً من ليالي هذه الدورة، أو كتلك الأولوية العبقرية.. التي حل بها معرض الرياض الدولي للكتاب أزمته مع الناشرين العرب خاصة، واتهامهم الدائم لنا بألا حرية لـ(الكتاب) لدينا.. عندما قدم فكرة (فسح معرض).. التي تتيح للناشرين إدخال كتبهم التي جاءوا بها، وبكل عناوينها وأسماءتّابها.. دون رقابة، ليعرضوها طوال أيام المعرض.. فإذا انتهت أيامه، حملوا ما لم يُبع منها وغادروا بها الرياض إلى أوطانهم، وهو حل عبقري فعلاً!! فهو لا يمنع القارئ من حريته في القراءة والاطلاع، ولا يمنح الحرية.. لمن لا يطلبها!!
***
معذرة.. إن أطلت الحديث عن (الماضي)، وسنوات الألق في حياة (معرض الرياض الدولي للكتاب).. فقد كان فيها ما يُسعد ويبهج ويحرك الوجدان.. رغم بعض العنعنات التي ظهرت في بعض سنواته، التي كان يثيرها بعض المحتسبين المتشددين.. إلا أنها سرعان ما كانت تختفي ليبقى (المعرض) وافتتاحه وفعالياته ورواده، وما يثيره من حراك ثقافي اجتماعي في (العاصمة).. أهم أحداث المملكة الثقافية طوال تلك الأعوام، أما معرضنا الذي انتهى يوم أمس.. فقد كان موعد افتتاحه، وكأنه سر لا يصح الإفصاح عنه إلا قبيل أيام.. وهو أمر يناقض أبسط قواعد التسويق.. إن نظرنا إلى الأمر تجارياً، فقد كان المسؤولان الجديدان عن المعرض.. يتهربان من ذكر (الموعد)، فإذا تم العثور على أحدهما -بالتي واللتيا- (زحلق) الإجابة على زميله الآخر الذي يتعذر العثور عليه عادة!!
ربما كان هذا من بين أسباب غياب المثقفين -الذي كان واضحاً جلياً- عن حفل الافتتاح، إلا أن القليلين منهم الذين حضروا الحفل.. عبروا فيما بعد عن استيائهم.. لمنعهم بعد انتهاء الحفل الخطابي من مرافقة وزير الثقافة والإعلام الدكتور عادل الطريفي.. في جولته الافتتاحية داخل أروقة المعرض..!! وهو أمر مستغرب ومستنكر.. إن كان قد حدث.
أمام غياب المثقفين -الذي يبدو أنه كان حقيقة-، الذي ساعد عليه حالة التقشف التي غشيت (الوزارة)، وجعلتها تحجم حتى عن دعوة رؤساء الأندية الأدبية ومن في حكمهم من أدباء كل منطقة.. كان هناك حضور مكثف لأعضاء (الهيئة)، إذ بلغ عددهم.. خمسة وستين عضواً، لا أدري ما هي مهمتهم في هذا الوسط الثقافي الأدبي الراقي! لقد استنكرت وجود خمسة وأربعين منهم -من قبل- في (معرض جدة الدولي للكتاب) الذي انتهى في ديسمبر الماضي.. لتفاجئني الأخبار بزيادتهم في الرياض.. وليس بنقصانهم كما كنت أرجو وأتمنى.. لا كراهة فيهم، ولكن للرعب الذي يثيره وجودهم.. خاصة بين المقيمين الذين يمثلون - في الرياض أو في جدة- ما لا يقل عن خمسين بالمائة من حضور المعرضين!!
على أي حال.. كان هناك سببان آخران لغياب المثقفين.. ولقلة الرواد إجمالاً: الأول: منع وصول السيارات من الدخول إلى باحة المعرض.. وإلزام قادتها بالوقوف في (الموقف)، وإنزال من فيها.. ليعتمدوا على حافلات النقل في إيصالهم إلى المعرض، وهو ما صرف الكثيرون عن مواصلة سيرهم إلى المعرض والعودة إلى منازلهم.. وهو ما عبر عنه رسام الكاريكاتير (خالد أحمد) بصحيفة (الوطن).. عندما رسم على الصفحة الأخيرة -في عدد الثلاثاء الماضي-: لوحة تصور نهر السيارات المتسق والمتجه إلى المعرض.. الذي يضطرب عند وصوله إلى المعرض بين رائح وغاد.. بينما عُلقت على كتف الطريق لوحة تقول: (ارجع بيتكم، اطلب من النت)!!
والثاني: العودة مجدداً إلى الفصل بين مداخل الرجال والنساء، وهو ما يحرج رب الأسرة وأبناؤه الذكور.. مع بقية أفراد العائلة من النساء، وقد يصرفهم عن الذهاب أصلاً للمعرض.. وهو ما يبدو أنه حدث بصورة أو بأخرى!!
أما برنامج الفعاليات الثقافية المصاحبة للمعرض من ندوات وأمسيات شعرية وقصصية.. واختيار أسماء المشاركين والمشاركات فيها، فقد كانت انتقائية.. بصورة لم تعرفها فعاليات المعارض السابقة!!
***
لقد كان متوقعاً.. أن يشهد المعرض الحادي عشر الدولي للكتاب في الرياض.. في ظل قيادته الشابة الجديدة التي يمثلها الدكتور عادل الطريفي.. انفتاحاً أكبر، يضع نفسه تحت لوحة: إلى الأمام سر.. وليس إلى الخلف در؟! انفتاحاً يحقق لـ(المعرض) أولويات جديدة.. تضاف إلى أولوياته التي شهدتها دوراته السابقة، وأحسب أن ذلك يتطلب منه إعادة النظر.. في انتقاء واختيار الكفاءات الجديرة بحمل أعباء معرض كهذا.. بتاريخ ناصع كتاريخه!