د. حسن بن فهد الهويمل
لوعرف المجالدون، المجاهدون لمصلحة الغير مضمرات الرَّمِيَّة، ومفاهيمها، حول مايَجِدُّ؟؟، لما احتدمت المناكفات. ولما تصدعت العلاقات. ولما كانت استبانة الرشد بعد ضحى لم يأت بعد.
مشهدنا الثقافي، والفكري، والسياسي لايخلو من [بَرَاقِشِيِّين] يغرون المتربصين بأهلم، ولايخلو من
[زِبْرقانيين] طاعمين، كاسين، يَتلقَّون، ولا يستبدون، ويَنْدِلون ندل الثعالب، ولا يفترسون افتراس الأسود.
والاستقلالية المتعالية جَسَّدتها مقولة:-
[فَامْنعْ نَوالَكَ عَنْ أَخِيكَ مُكَرَّماً ... فَاللَّيْثُ لَيْسَ يَسِيغُ إلاَّ مَا أفْترَس].
ومشاهد أمتنا العربية مرتهنة للتبعيين، موبوءة بالمتذيلين. وقدرها أن تظل في نزاع لايفيق. وكم من أوَّاب ندم ندامة [الكُسَعيِّ] على مابدر منه، حين تكشفت له الحقائق، وبان له وجه الصواب.
واندفاعات المتنخوبين، توسلت بالسنان، واللسان، لحسم المواقف، وتصفية الحسابات.
فعلى مستوى الانقلابات العسكرية، سادت شعارات [القومية]، و[الاشتراكية]، و[الوحدوية] و[الناصرية]، و[البعثية] وتعانقت القوتان: الناعمة، والخشنة، لفرض المتبوع.
وفي هذه الضجة الصاخبة استفحلت مصطلحات، وألقاب زائفة. كـ[الرجعية]، و[العمالة]، و[الثورية]، و[الحرية]، و[التقدمية]، و[التنوير]، و[الحداثة].
وانشقت صحراء الفكر المتصحر عن أحزاب، وتنظيمات، وطوائف، ومذاهب، وحوصرت قيم قيمة، وموروثات أصيلة، وأصبحنا في [لجة أمسك فلاناً عن فل].
والعقود الثورية القاحلة، إلا من التسلط ، والاستبداد، مَرَّت كالضريع، ولما تُؤَسِّسْ لمشروع عربي خالص العروبة، ينبثق من الحاجة، ويستحضر بنية الفكر العربي، وبنائه.
[الحضارة الإسلامية] كيان مكتمل الأهلية، جدير بالمنافسة، والندية، والمشاركة في صناعة المستقبل الإنساني. ولكن بعض المتصدرين للحراك الفكري {كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}.
والناسلون من رحمه، حين لايستوعبونه، ولايتمترسون خلفه، يكشفون مثمناتهم للمخالف، ويُخْلون ثغورهم للمتربص، ويكونون غثاء كغثاء السيل.
وتلك سجية عرفناها في التبعيين، وشنشنة سمعناها من [الأخزميين]. ولما نزل في أمر مريج.
ومشاهدنا المتعددة، تعج بالمصطلحات من هنا، وهناك، يتعلق بها الفارغون من المعرفة، والتجربة، وحسن الأداء.
وهي إذ تكون منجزاً إنسانياً، يمتلك استثماره كلُّ قادر على المجايلة، فإنها مسبوقة بمنجزات ربانية، وإنسانية، ومتبوعة بأخرى.
والأزمنة الثلاثة حواضن لما أبدعه الإنسان، وماورثه. والْكُلُّ أمانة عند من يتلقاه. ومُهمته أن يحسن تنميته، ويجيد استثماره. ويتقن إدارته. ويعرف المهم منه، والمفيد. والمحظور، والمباح في شرعته، ومنهاجه.
فالحياة انتماء، وليست مَسْخاً. والحضارات، والديانات كيانات تمتلك حق الوجود الكريم. ولن تَتعَايش إلا بتفضيل الحوار على الصراع، والوئام على الصدام.
وعلى ذويها أن يعرفوا أن قيمة الحياة في التنوع، وأن الاختلاف المُوَجَّه إكسير الحياة، وطريق التنوير، والإستنارة. وأن مشاهد الحياة تتسع لكل الخطابات. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}، ودأبهم الاختلاف: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فمن ضاق من التنوع، وحَلُم بالهيمنة ضاع، وأضاع، وحَوَّل الحياة إلى جحيم لا يُطاق.
ولا تعارض بين حتمية التعددية، والدعوة، والإرشاد، والإبلاغ: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، فما أحد على أحد بمسيطر: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}. {إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ}. وطرح المشاريع حق للجميع:- {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}.
فالصراع بين الحق، والباطل ماض في كل الأزمنة، والأمكنة، وعند كل الأعراق. وسُنَّة [التدافع] بين المصطرعين ماضية إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها.
و[التدافع] سبب البقاء، إذ لولاه لفسدت الأرض، وهُدِّمت أماكن العبادة. {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}.
وللصراع: أهمية، وخطورة. فأهميته حين يكون في إطار المنجز الإنساني. وخطورته حين يمتد إلى المنجز الرباني، القطعي الدلالة، والثبوت.
وفيما بين هذا، وذاك اجتهاد مشروع، أو لجاجة مُحَيِّرة، وحق أبلج، أو باطل يتلجلج، وشبهات، ومُحْكمات.
والمحقون، والمبطلون يصطرعون في سبيل الاستئثار بالمشاهد، وإغواء الرأي العام، أو هدايته.
واشكالية المشاهد أنها حلال للمُمَارين بالإثم، والعدوان، ؟مِمَّن نكبوا عن ذكر العواقب جانبا؟؟؟.
والعصر المعاش تكاثرت فيه الرويبضات، وفاضت أوعيته بالغثائية. وعمت الشبهات. وسبيل الشهرة يكمن في المتشابه، والمسكوت عنه. وفي غياب القواعد، والأصول، والمناهج، والآليات، وفي عدم احترام التخصص، وفي غياب الرقيب.
ومن تعقب مناهج المدارس المتسمِّية بـ[العقلية] يدرك أن العناوين خادعة، والادعاءات كاذبة، والاستغراب مستشر. والتيارات [العلمانية]، و[الليبرالية]، و[الحداثية] طاغية متسيدة.
ومن عجب أن الأساطين لم يتهيبوا قدسية القرآن، بوصفه كلام الله المحكم المحفوظ. لقد [موضعوه]، و[أنسنوه]، و[أرْخَنُوه] وشرعنوا لأنفسهم الخوض في محكمه، ومتشابهه، لتحوله - بزعمهم - عندما تلبس باللغة، والخط ، ووسعه التاريخ إلى منتج إنساني شأنه في ذلك شأن الشعر، والسرد، وسائر الإبداعات القولية.
لقد توسلوا بمصطلح [الأرْخَنَةِ]، واحتمالات الخطأ عند جمع القرآن على يد المخلوقين. وأثاروا شبهات القراءات، والنسخ، والنزول، والرسم.
ولك أن تقرأ ما أرهص به [أركون]، و[أبو زيد]، و[الجابري]، و[جعيط]، و[شحرور]. ومن واكبهم، أو جاء بعدهم، والتصديات المعرفية، والعاطفية التي حَفَّزوها للدفاع عن حوزة المقدس، لتقف على العجب العجاب.
هذا الركام الخليط من الزَّبَدِ، ومما ينفع الناس، يشكل تاريخاً لمرحلة مضطربة، التطمت فيها الأفكار، والآراء، والتصورات المتناقضة، التي انعدم فيها التوازن، وتحول جُلُّ اللغط إلى هشيم تذروه الرياح.
الذين تعالقوا مع هذه التيارات المجازفة، لم يتوفروا على متطلبات البحث المعرفي من [منهجية دقيقة]، و[مرجعية عميقة]، و[نظرية معرفية موصوفة]، و[فهم سليم للمتداول]، و[توسل بآليات التراث]، و[مناهجه].
ولقد وصفهم بعض الباحثين الأكاديميين بـ[المدرسة العقلية]، ورَبَطهم بـ[المعتزلة]، وهذا تشريف سخي، مجاني. لايستحقونه.
فـ[العقلية] مطلب رئيس في كافة الدراسات. بل هي مناط التكليف. و[الاعتزال] مدرسة لها منهجها، ونظريتها المعرفية.
وهم بهذا الوصف يَزْهُون، ويُدِلُّون، لأن التداولات الفكرية حين لاتحفظ التوازن بين الدراية، والرواية لاتكون سليمة، إذ لاقيمة للنصوصية بدون العقلية، ولا للعقلية بدون النصوصية. وتلك معادلة صعبة.
الذين يركنون إلى [الحداثة]، دون تفصيل ويتغنون بها دون تحديد، ويراهنون على جدواها، من بني جلدتنا، مأخوذون بسوء الفهم، واضطراب المصطلحات، وحماسهم، واندفاعهم ناتج جهل بمراوغة المصطلح.
فلو سألت أحدهم عن مفهوم [الحداثة]. لقال لك: إنها التجديد، والتحديث. وهاتان السمتان لاخلاف حول أهميتهما، ومشروعية الأخذ بهما، فهما مطلبان رئيسان للفكر الإسلامي. وكيف يتأتى لمسلم عاقل، رشيد، رَفْضُ التجديد في كافة وجوه الحياة، بما فيها [الدين].
والمختصمون حول [الحداثة] مأخوذون باضطراب مفاهيمها. فـ[الحداثة] المرفوضة هي حداثة الفكر المادي، والجرأة على المقدس، واخضاع الثوابت للنقد، والمساءلة، ونسف المسلمات بحجة أنها معطيات متلبسة بالتاريخ.
ثم إن إعجابهم المطلق بالأساطين، وظنهم أن الإعجاب لايتجزأ من خطأ التقدير، فإما أن يكون، أو لايكون. وتلك رؤية ناقصة.
فالمفكرون حين يتوفرون على المعرفة، والمنهجية، والإستنارة، والإفادة، يؤخذ منهم مايفيد، ويُطرح مالا يفيد. ويكون الإعجاب بالتجليات، والمآخذ على الإخفاقات. على حد:- {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
إن من الوجلين من يظلم المخالف، بحيث يصادر كل حقه، وهذا مخالف للمنهج السليم. ومن المنبهرين من يظلم عقيدته، وفكره، ويعطي للمخالف من الثناء، والقبول ما لايستحق.
فلا هذا، ولا ذاك على حق. والأسوأ من هذا، وذاك من يقرأ عن الخصوم، ولا يقرأ لهم، ويكون في أرآئه، وأحكامه تبعياً، لايتثبت.
والمنهج السليم يقوم على التحري:- {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
والمناكفات المتداولة، والأحكام المجازفة، حصيلة سماع، واهتياج عاطفي.
إن التعلق بـ[الحداثة] دون تفصيل، وتفضيلها على ما سواها دون استثناء، مؤشر جهل بمقاصد المصطلح، ومحققاته.
[الحداثة] مصطلح غربي، مادي، دنيوي. نسل من حضارة مغايرة، واستجاب لرغبات -هي الأخرى- مغايرة.
ورفض هذا المصطلح على إطلاقه، لايختلف عن قبوله على إطلاقه. ماينقص المتعالقين معه من بني جلدتنا مرجعة إلى نقص التأصيل المعرفي، وتسطح الفهم.
الأصالة، والمعاصرة جناحان يخفق بهما المحقون، الذين يمتلكون القدرة على الريادة، وحفظ الساقة.
وداء الرعاع الموجفين، المرجفين أنهم يجهلون تراثهم، ولايجيدون معطيات الآخر، ولا يملكون إلا اللجاجة، والإندفاع الأهوج.
يقول بعض المتحمسين، المخدوعين بمراوغة المصطلح:- [حتى أن الحداثة التي هي أسُّ فلسفة التنمية الأول التي تشرئب لها أعناق بني البشر اليوم جعلوها هي والإسلام نقيضين لايجتمعان كما يقول الواعظ عوض القرني في كتاب مضحك له].
وهذه الإطلاقات المتحمسة، والأحكام المجازفة، والتهكم المسرف، تحمل العقلاء العالمين المتوازنين على الاشمئزاز.
ذلك أن [الحداثة] ذات أبعاد متعددة، لا يُسَلِّم لها بهذا الإطلاق ذووها الذين أنشؤوها.
وصاحب هذه المقولة، ربما جاء متأخراً، بعد أن فقدت الحداثة ألقها، واستهلكت حماس أهلها.
والتبعيون الآن يشتغلون بـ[مابعد الحداثة]. ولغة [البعديات] ملاذ المفلسين.
لقد استنزفت نشاطنا، وحماسنا مصطلحات سياسية، وفكرية، وأدبية، نتعالق معها، حين ينطفئ وهجها في منشئها. ولانجد غضاضة في التحول السريع عما كنا نعده [نهاية التاريخ].
إن علينا طرح مشروعنا العربي الإسلامي، المستوعب للتراث، والمعاصرة، والتوفر على فهم دقيق لمشاريع الآخر، والأخذ بأحسنها. نريد [الحرية]، ولكن بمفهومها الإسلامي، لا بمفهومها [الليبرالي] ونريد [الأخوة]، و[العدل]، و[المساواة]، كما دعى إليها الكتاب، وصحيح السنة. لا كما يتغنى [الماسونيون].
- وكيف نستجدي من الآخر ماهو منا، وإلينا؟
ولسان حال المتابع المدرك يقول:-{هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}.
نحن لايعنينا مايعتقده المرء في قلبه، ومايحوك في نفسه من ريبة، وشك، فذلك شأنه، أما حين تبدو صفحته، ويشاقق الحق، فيما يقول، ويكتب، فإن من حقنا أن نقيم عليه الحجة. وأن نواجهه بمثل ما بادرنا به. فذلك حق مشروع، وعلى البادي كفل المقترف.
في العصر الحديث ند عن سواء السبيل أدباء، ومفكرون، عكروا الصفو. وحرفوا الكلم. وأثاروا مشاعر العامة. وحدوا بحراس التراث إلى التصدي لهذه التجاوزات.
ولو استدعينا ما يسمى بـ[عصر العمالقة]، لرأيناهم مأخوذين بما جد من مذاهب، ومناهج، لم يحسنوا مواجهتها، ولا التعامل معها.
ولقد أحدثت شطحاتهم ثورة عارمة، أربكت المشاهد، وألهتها عن التنمية السليمة، والتفاعل الإيجابي مع المستجد.
ولمن شاء قراءة ماخلفه الصراع مع [طه حسين]، و[زكي مبارك]، و[أحمد أمين]، و[علي عبدالرازق]، و[محمد أحمد خلف الله]. والسلسلة القبطية الصدئة المتمثلة بـ[زيدان]، و[سلامة موسى]، و[لويس عوض]، و[غالي شكري]. وآخرين يعلمهم المكتوون بنيران الصراع الفضولي المجاني.
هؤلاء العمالقة لهم، وعليهم، ومن العدل، والإنصاف، الإشادة بقدراتهم، والتحفظ على عثراتهم، والعدل في محاكمتهم.
مايسوؤنا الإهتياج الأعزل من المعرفة، ومن حسن التعامل، مع المخالف، والإنصياع لمشروع الآخر، دون تثبت. وذلك ديدن المتعالمين الذين يظنون أنهم خاصة العلم، وأهل الحل، والعقد.
ومن الصعوبة بمكان تنوير هذا الصنف، وتمكينه من معرفة نفسه، ومبلغها من العلم. فلو أدركت هذه الفئة بعض مايجب، لاستراحت، وأراحت، وأوقفت نزيف اللجاجات المجانية، وتمكنت من حفظ سمعتها، وتوجيه كل الطاقات: لعمارة الكون. وعبادة الخالق. وهداية البشرية.