د. حسن بن فهد الهويمل
لم تكن عزماتي كما هي من قبل، وإن كنت أغالب أعراض الشيخوخة. والشيخوخة أغلب، وأصر على أنني في ذروة الكهولة، ولهذا فقد لا أكون شاهد أهل. وإن حرصت على منازعة الشباب مالهم، بذرع الممرات جيئة، وذهاباً.
... حضرت معرض الكتاب بدعوة كريمة من [وزارة الثقافة والإعلام] تابعها، واستكمل متطلباتها تلميذ الأمس، وزميل اليوم الدكتور [خالد الرفاعي] الذي وُكل إليه الشأن الثقافي في تظاهرة المعرض، ومتعلقاته.
وسعدت بحضور حفل الافتتاح الذي تشرف معالي الوزير بالإنابة عن خادم الحرمين الشريفين بـ[تدشين] كافة فعالياته.
وحمدت للوزارة حرصها على أن يكون المعرض فوق مافعله السلف في المعارض السابقة، وإن كان رضى الناس غاية لاتدرك.
ولأن عين الرضى تهيمن على الموقف، فإنني لن أكون مدَّاحاً. فالتظاهرة الثقافية التي شهدت طرفاً منها، تنبئ عن مخبوء واعد، تحمد بوادره، لأنه يشف عن كوامن ثقافية تساير الواقع، وتسابق المتوقع.
كل ماشهدته، ورضيت به، لايلغي تطلع النخب الثقافية، لإعطاء الحقل الثقافي مزيداً من الدعم، والعناية.
وقد لايشفي نفوس المثقفين، ويبرئ سقمها إلا وزارةٌ خاصةٌ للثقافة، ترعى شؤون الثقافة، والمثقفين.
لقد تنقلت مسؤولية الثقافة بين [الداخلية]، و[الشؤون]، و[الرعاية]، و[الإعلام] وهذا يؤكد أنها جديرة بالاستقلال، بعد هذا المشوار الطويل.
اهتمامي وإن تخطى الفعاليات الخطابية مُنصب على محتويات المعرض، وتسويقه، وجديده، ومعقولية الأسعار، وإتقان إدارة الحشود. خارج المعرض، وداخله.
وكأنني بهذا التطلع ذلك الشعوبي الشقي، الذي عاب على الشعراء التعلق بالأطلال. فيما ذهب هو يسأل عن [خَمَّارة البلد].
والمثقف عندما لايكون مع الكتاب، كالمدمن مع الخمر، لايكون حرياً بهذا اللقب الباذخ.
وكيف يتأتى له هذا اللقب. والثقافة -كما يقال- :- الأخذ من كل شيء بطرف، والأهمية تؤكد ذاتها، بعد تفشي [أمية التخصص] التي ربما تكون آفة العصر. وبخاصة في [الحقل الأكاديمي].
إننا نُسْرف على أنفسنا، ونبالغ حين نطلق مصطلح [المثقف] عل كل من هب، ودب. حتى لقد أصبحت كلمة الثقافة، والمثقف من الكلمات المبتذلة الرخيصة.
الثقافة: [معرفة، ووعي، وسلوك]. وعلاقة السلوك بالمعرفة، كعلاقة الروح بالجسد، فلا وجود لأحدهما بدون الآخر. وبئست الثقافة المعرفية، التي لايتوجها السلوك الحسن. إننا نهين الثقافة. ونطفئ ألقها حين نتبادلها كما نتبادل كلمات المجاملة.
ولقد أمْرَضَ نفسي، وعَمَّق سُقْمها تَعَرِّي الثقافة عند البعض من السلوك الحميد، والتأصيل المعرفي القديم، والجديد
فالمثقفون رسل الأموات إلى الأحياء، يحملون أفكارهم، وتجاربهم. ويُبَلِّغون قيمهم، وحين لايقدمون القدوة الحسنة، ووعي المرحلة، ورباطة الجأش في مواقف الاختلاف. وحين يتدابرون لمجرد تنوع المشارب، لايكونون جديرين بهذا اللقب.
وهم حين لايتدثرون بالمهابة، والرزانة، لايستحقون الانتماء إلى الثقافة. المستفيض أن هناك شيئاً من التبذل، وانعدام المواقف عند المثقف العربي.
وهذه الخلال -حين تستشري- تعد مؤشر إفلاس ذريع للثقافة.
ومن البلية أن يعم هذا النقص: معرفة، وسلوكاً، ووعياً. وأن تتحول الثقافة إلى كسب معرفي متسطح، ومعزول عن التمثل، والسلوك الحسن.
المحمود أن هذه المآخذ لمَّا تزل في إطار الوقوعات. ولما تبلغ حد الظواهر. ولكنها على أية حال بادية للعيان.
لست أدري لماذا انتابني التخوف من هذا التحول، وأنا أتناول مناسبة ثقافية، ليست مسؤولة عما آلت إليه الثقافة، والمثقفون.
ما أربى في الثقافة، ولم يرب فيما ينفع الناس استفحال ظاهرة [خداع العناوين] وسباق المرتزقة في مضاميرالمخادعة، وسحر أعين الناس.
حشد كبير من العناوين البراقة، والإخراج الأخَّاذ، والمضامين الرديئة، والأساليب الركيكة، والأفكار الضحلة. والتجميع المرتبك، والمربك.
زرت المكتبات المهمة كـ[الساقي]، و[مدبولي] و [تويقال] و[مركز دراسات الوحدة العربية] وبعض دور النشر الأخرى، [المتأدلجة]. فأدركت أن البعض منها مأخوذ بالإثارة، والحديث عن المسكوت عنه. سعياً وراء الجذب، والكسب.
[السوق السعودية] من الأسواق المهمة، ودور النشر تنتهب الخطى، ليكون لها موضع قدم في معارضها، ومناسباتها.
والمعيب أننا لم ندرك هذه السمة، ونظل نتصور أن الجالب منعم متفضل، ولهذا نبسط الخدمات، ونقدم التسهيلات، ونتحمل التبعات. ثم لانحفظ ساقة المتسوق، الذي لايجد من يرود له، ولا من يحمي ساقته.
فالباعة يبدعون في أساليب الابتزاز. المكتبات، ودور النشر المهمة تتحكم في الأسعار. فيما لانجد مثل ذلك في سائر دور النشر، والمكتبات الأخرى.
الكتاب يُباع في [الساقي]، أو في [مدبولي] بأضعاف ثمنه.
قلت لأحد المسكونين بهم الكتاب:-
كيف أنت، والأسعار؟
قال:- قتيل هوى، ليس له ولي مصلح.
جهد المسؤول في الشكليات، والمتسوق آخر من يُفَكَّر بحقه. مع أنه الهدف الرئيس.
في المعارض المماثلة في [مصر] و[المغرب] وغيرها. تجد الأسعار المعقولة، والوفرة النوعية.
المسوقون عندنا عيونهم على الطلب، ولهذا يحرصون على جلب المطلوب من كتب التراث الديني. وهذا المطلوب متوفر فيما سوى المعرض، في سائر أيام العام.
وحين نسأل عما نريد يحتج المسوِّق بالرقيب، فيما يخفي وراء [الكواليس] مايوهم أن الرقيب غفل عنها، ليبيعه بأضعاف ثمنه. بحجة أنه من الممنوعات، وماهو منها، ولكنها الحيل المتذاكية.
لا أشك أن الرقابة عندنا مرنة، وحريصة على فتح المجال على مصراعيه، ولكنها مسؤولية لها محدداتها، ولايمكن إلغاء أثرها.
وإذا كانت الدولة مسؤولة عن سلامة الأغذية البدنية، فإنها أكثر مسؤولية عن سلامة الأغذية الفكرية. وليس لهذا دخلٌ في الحرية التي يزايد عليها الخليون.
والقول برفعها لايختلف عن القول بتشددها. المواطن الحق من يعرف حدود السلطة، ويدعمها. ويحس بتجاوز حدودها إلى مجال التسلط ، ويحذر منه.
والدولة لاتريد من أي مسؤولية أن تهمل مهماتها، ولا أن تتجاوز حدود مسؤوليتها.
وعلى المواطن تقبل ذلك، لأنه إحقاق للمسؤولية الشرعية إذ:-
[لايَصْلُحُ الناسُ فوضى لا سراتَ لهم ... ولا سراتَ إذا جُهالهم سادوا]
مايسوء المتابع انفجار الأعمال الروائية، وانخداع الشباب، والشابات بذلك، وتهافتهم عليها. وكم من دار نشر لاتعرض إلا الأعمال الروائية، البارعة في العناوين، والإخراج.
وإذ لانعترض على ذلك، فإننا نود أن يكون العمل الروائي إضافة لغوية، وأسلوبية، وفنية. وأن تكون الأعمال الروائية أوعية للتجارب الإنسانية.
المشكلة أن الأعمال الروائية، تفتقر إلى البعد اللغوي بمجازيته، وإيجازيته، وفصاحته، وجماليته. وتفتقر إلى البعد الدلالي بسمو أخلاقه، وأهمية تجاربه، وبعد نظره. وتفتقر إلى البعد الفني بكل متطلباته المتعلقة بالأزمنة، والأمكنة، والشخصيات، والأحداث، والحركة الداخلية.
والجرأة الفارغة من كل الحسابات، وتغافل النقد، أو مواطأته دفعت بالشباب الأحداث، والشابات المترجلات إلى الخوض في أوحال [أدب الاعتراف]، والإثارات الغريزية. وهو طُعم خادع، جر الأقدام، وأسال الأقلام بكلام فارغ من كل القيم، تحت ذريعة حرية التعبير.
والحرية في الإسلام محكومة بقيمه، ومقاصده. ومن تصورها كما هي فيما سوى الإسلام، فقد خاض في أوحال الرذيلة.
الإبداع الأدبي للإمتاع بالدرجة الأولى، فهو يتوسل بالجمالية، والخيال، والمجاز، والإيجاز، والجرس، والإيقاع. ولا يتوفر عليها إلا الموهوب، المثقف، المجرب.
وليست السرديات بأقل صعوبة من الشعر، ومن تصور الرواية سهلة المركب لنثريتها، فقد أفسد الأدب، وقزز الذوائق.
عثرات السرديات، واكبتها عثرات أخر، تمثلت في مؤلفين محترفين، يلتقطون من المشاهد مستجد الأحداث المثيرة، قبل نضوجها، فيملؤون أرجاءها بفصول القول، وسائب الإنشاء، ثم يسرفون في خداع العناوين، وبارع الإخراج، ويحسبون أن قولهم فصل الخطاب، الذي لامعقب له.
لست متشائماً، ولا متحاملاً، ولامحبطاً، ولكنني خَبَرْتُ الكتاب منذ ستة عقود، وعرفت أساطين العلوم، ونجوم الفن. وتجربتي تخولني القول في المشهد، وعنه.
ولأن من قال:- [هلك الناس فهو أهلكهم] فإنني لا أعدم الأصالة المعرفية، والتألق الإبداعي، ولكن الغلبة لما دون ذلك.
ما يعتري الثقافة، والفكر، والإبداع، من إخفاقات هو مسؤولية المرحلة. فالمعرض يجود بالموجود. وواجب قادة الفكر، وكبار النقاد، تنوير الرأي العام، وتحذيره من المخادعين المبتزين.
وفي النهاية فالزبد يذهب جفاء، ولايمكث في الذاكرة إلا ماينفع الناس.
تتصدر [المملكة] بالكثافة كافة المشاركين، تليها [مصر] فـ[لبنان] فـ[الأردن] فيما تتصدر [لبنان] و[المغرب] في جودة المعروض، وجديده.
ويبقى [المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي] محتفظاً بجودته. وبخاصة في سلسلة [عالم المعرفة].
في [المملكة] تتألق [الدارة] و[مكتبة الملك عبدالعزيز] و[مركز الملك فيصل] وكرسي [عبدالعزيز المانع].
والأمل معقود بناصية الوزير الشاب، لتحريك الركود فيما سوى ذلك.