د. حسن بن فهد الهويمل
اللاعبون الأذكياء. والمتذاكون الأغبياء، يملؤون الفراغات، ويسدون المنافذ، ويبحثون عن مفاصل الأزمات. وهم كالملاكم البارع، الذي يتوسل بالضربة القاضية.
في مشرقنا العربي المكلوم، يتكدس اللاعبون، وتتنوع اللعب، وفينا السماعون المستجيبون لأوهن الرؤى، وأكذب الادعاءات.
والمخلصون لأمتهم، تفصلهم عن مواجهة اللعب لإجهاضها مراحلُ متعددة. تتمثل في تصحيح المفاهيم. وانتزاع الوهن. ومعالجة الإحباط، واليأس، والقنوط. وتنوير الرأي العام، والنهوض به من عثراته.
والمشهد السياسي العربي بكل ما يعج به من تناقضات، يتطلب سرعة الاستجابة، ومرونة التحول، وبراعة المراوغة، والدقة المربكة في المفاجآت، وانتقاء المواقف، وحسن التصرف.
لقد سَلَّم الإنسان الخليجي للشائعات المغرضة. وتَصورَ أنه بقرة حلوب، لمن يُخَوِّف أولياءه. وكم يتداول هذا الإنسان ببلاهة معتقة ما يقال عن سياسة الدفع بالدفع، وشراء الضمائر الموبوءة بنهم الارتزاق.
فمن بعض ما يقال: أن صحفياً صُرِف عن قضية بمبلغ سخي، فتركها، وراح يفتري الاتهامات، أو يضخم قضايا ثانوية أخرى. فلما عوتب قال: ما قَبضْته ثمناً للسكوت عن قضية محددة. وهكذا تظل صورة الخليجي، تراوح بين البدائية، والبداوة.
ونحن باستجابتنا للشائعات، وترويجنا لأحاديث الإفك، وبلاهة البعض منا، نصدق كل ما يقال، ونرتب أمورنا على ضوء ما يشاع.
والقطع بأن معولنا في كف الأذى، ودفع الشر، وفك الاختناق مربوط باللهاء، التي تفتح اللُّهى. بمعنى أننا لا نملك النديَّة، ولا نردُّ بالمثل.
كل هذه الأوهام، والمفتريات نُسِفَت بالقرارات [الحازمة]، [الجازمة]، [العازمة].
[عاصفة الحزم] كخطوة أولى، هَدَّت الحصون الورقية، وكشفت عن سَوْءة الخصوم الذين ظل رهانهم على الدعاية الكاذبة، والإعلام المخادع.
لم يكن في تصور البعض منا أن بإمكان [المملكة] مفاجأة العالم بضَربة مُعَلِّم، فُزِّع فيها عن قلوب مخدرة، بالقول الزائف، والدعاية المرجفة.
وحين بدأ دوِيها يصم الآذان، تنفس الإنسان الخليجي الصعدا، وأدرك أن [المملكة العربية السعودية] قادرة على الردع، والرد القوي في اللحظة المناسبة. وهي تعلم أن الطريق طويل، والتكاليف باهظة، ولكن: [لا بُدَّ مما ليس منه بُدُّ].
وأمام [العصف] و [الرعد] انخنس أبطال الرغاء، والدعاوى العريضة. وراحوا يفكرون بالخلاص، فضلاً عن الرد المناسب.
[إيران] التي تحلم بالإمبراطورية الفارسية، عُدَّتها شراء الضمائر، والإيجاف بالقول الرخيص، والمخادعة، والمخاتلة، ومشية الخيلاء بالعمائم، واللحى، وشراء الضمائر بخبز الجياع، ودواء المرضى، وألحِفَةِ المقرورين.
[إيران] التي ركبت موجة [الربيع العربي]، وآزرها اللاعبون، الذين وجدوا فيها ما يكفيهم تكاليف متطلبات اللعب، ظلت تبحث عن مواطئ قَدم في دول عربية، وخليجية باعها العققة من أبنائها بثمن بخس دراهم معدودة، متوسلة بدعوى نصرة المظلوم، متوشحة برداء الطائفية. مستغلة سذاجة الشيعة العرب.
ومشروعها الصفوي، يقوم على [العنصرية الفارسية]، و[الطائفية المجوسية] المستهدفة للعنصر العربي، والتشيع العربي المتعايش مع من حوله من المكونات السكانية، وآلته القتل، والتدمير.
لقد استجاب لها [المالكي] في العراق، وما يسمى بـ[حزب الله] في لبنان، و[بشار الأسد] في سوريا، و[الحوثي] في اليمن. وأخذت [الآيات] و[الملالي] سكرة الانتصار الزائف، وبدأت مساوماتهم على التسليم السلمي، والانضمام إلى قافلة المخدوعين، والانبطاحيين.
وما كان في حساب أحد من أولئك أن للحليم غضبةً مُضريةً، تهتك الحجب، وتهد الحصون. وتعري الزيف. وتعيد الوعي للمخدوعين بالدعاية الكاذبة، والإدعاء العريض.
و[قطع العلاقات الدبلوماسية] مع إيران بعد الاعتداء على [السفارة]، و[الملحقية] لطمة ثانية. أذهلت الملالي، والمتذيلين لهم. وانتزعت إعجاب العالم، وتأييده، واستنكاره للممارسات الهمجية، الغوغائية المدبرة، والمدعومة من السلطات الأمنية الإيرانية.
لقد اتسم هذا القرار القوي بالحزم، والعزم، والجزم. وحَمَل العالم على إكبار هذا التصرف، وتأييده.
وتأتي اللطمة الثالثة بالدعوة إلى التجمع الإسلامي، العسكري، لمحاربة الإرهاب، المتورطة فيه إيران، وعملاؤها في بقاع عربية كثيرة، وتنظيم مناورة [رعد الشمال] للتأكيد على أن المملكة جادة، وقادرة على إنجاز تكتل عربي، وتكتل إسلامي، وانتزاع التأييد، والإكبار العالمي.
وفي سياق العزم، والحزم، والجزم تأتي المفاجأة الرابعة المربكة لـ[إيران] و[حزب الله] و[اللبنانيين] على حد سواء، والمتمثلة بإيقاف الدعم للجيش، والأمن اللبنانيين، رداً على المواقف، والتصرفات غير العروبية من بعض المسؤولين اللبنانيين.
وهي تصرفات محكومة بالدعاية المضللة، الموحية بأن المملكة تعطي راهبة، لا راغبة، وأنها لا تملك اتخاذ القرارات السيادية. بل تظل تدافع عن نفسها براجمات الدرهم، والدولار.
لقد أسقط في أيدي كل الأطراف. وأصبحت كل الخيارات صعبة.فـ[لبنان] أمام خسارة فادحة، لا يمكن احتمالها.
وكيف يتأتى له احتمال العجز المالي، والتفكك الداخلي، وخيانة القومية العربية، ومعاداة أقوى دولة عربية، تتسع أرضها لمئات الآلاف من اللبنانيين الذين يعملون في المملكة، ويُحَوِّلون لبلادهم من العملات الصعبة ما يقارب الخمسة مليارات دولار سنوياً؟.
- وكيف يكون الوضع في [لبنان] لو اتخذت المملكة خطوة أخرى، تتمثل في تقليص الوجود اللبناني على الأرض المعطاء؟.
لو كانت [إيران] نِداً للمملكة، لبادرت بالمواجهة، وثنت المملكة عن الضربات الموجعة. وأجهضت كل مبادراتها.
إذ بإمكانها -لو كانت في مستوى دعايتها- أن تَحوُل بين المملكة، وما تشتهي. وذلك بتعويض لبنان عما فقده من دعم سخي. والدعوة لتكتل إسلامي بحجم ما حققته المملكة، وتنفيذ مناورة مماثلة. ولكنها شحيحة، لا تنفق. وجبانة، لا تُقْدِم. ومعزولة، لا تطاع. و[المتنبي] جَسَّد حالها بقوله:
[لولا المَشَقَّةُ سَادَ الناسُ كُلُّهمُ ... الجُودَ يُفْقرُ، والإقْدَامُ قَتَّالُ].
ما يوده الشرفاء من أبناء الأمة العربية، وعي الجميع للخطوات الثابتة، والشجاعة في اتخاذ القرارات المصيرية التي اتخذتها المملكة، وفاجأت بها العالم. والصبر والمصابرة على احتمال ما يترتب على مثل هذه القرارات الجريئة.
وهي قرارات عازمة، جازمة، حازمة، ترفع رؤوسنا، وتدير رؤوس أعدائنا، وتقيل عثرات أمتنا.
فما عاد بالإمكان احتمال الأذى، ورؤية جانية، فذلك الغذاء الذي تَضْوى به الأحساد، وتغتم به الأنفس، وتذل به الكرامة.
والله قد نهانا أن نهن، أو نحزن، وفينا كتابه الذي يتحقق به العلو.