هاني سالم مسهور
كما عادت عدن إلى العرب، وكما ستعود صنعاء، لا بد من استعادة بيروت وشقيقتيها دمشق وبغداد، هذه المهمة العربية التي على الشعوب العربية أن تعيها، وهي المهمة التي باتت واضحة في ملامحها، فالوجود العربي لم يعد اختياراً لطرف من الأطراف العربية التي وجدت منذ 26 مارس 2015م إرادة كاملة وعزيمة حقيقية لاستعادة عواصم العرب والحفاظ على الأمن القومي العربي.
لبنان الذي عاش صراعاً دامياً على مدار خمسة عشر عاماً وحصد أكثر من مائتي ألف قتيل حتى 30 سبتمبر 1989م عندما دعا الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز الفصائل اللبنانية لتحكيم العقل والمنطق والبحث عن مصلحة لبنان، فوضعت «الحرب الأهلية» أوزارها وظهر «اتفاق الطائف» الذي اعتبر حجر الزاوية الأكثر تماسكاً وقوةً لمسببات مختلفة أهمها أن الاتفاق اللبناني أوجدته الإرادة العربية وتحملته المملكة العربية السعودية ونجحت لاحقاً الرياض في لعب أدوار عززت الوحدة الوطنية اللبنانية، وفتحت مجالاً واسعاً للتنمية الاقتصادية.
خلال ربع قرن قدمت السعودية للبنان مساعدات وهبات تصل إلى سبعين بليون دولار كانت إسهاماً سعودياً في أمن واستقرار لبنان، هذا الدعم السخي لم يكن قابلاً للمزايدة تجاه مصلحة لبنان العربي، وهنا تكمن جزئية مهمة لا بد وأن نتوقف معها بكثير من التجرد، فاتفاق الطائف الذي خلق توازناً سياسياً بين مختلف الفصائل اللبنانية يحاول طرف سياسي إسقاطه واستبداله بإطار سياسي آخر يتلاءم مع المشروع السياسي الإيراني الذي لا يمكننا أن نتجاوز حضوره من خلال «حزب الله».
حمل نص «اتفاق الطائف» بنداً واضحاً تمثل بالانسحاب غير المشروط للنظام السوري من الأراضي اللبنانية في مدة زمنية لا تتجاوز سنتين، كان ذلك البند يحاول قطع الطريق على أي تدخلات خارجية في شؤون لبنان الداخلية، والحفاظ على وحدة أراضيه، إلا أن التأخير في تنفيذ هذا البند زرع بذرة المليشيا في التراب اللبناني، واستطاع «حزب الله» أن يجد ثغرة فتحت المجال للطرف الإيراني بالتواجد في السياسة اللبنانية ولعب أدوار مختلفة خاصة بعد وصول الرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الوزراء.
المشروع الإيراني في لبنان كان أنموذجاً أكثر أهمية في قراءة التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية، فافتعال الأزمات السياسية من خلال توتير الحدود اللبنانية الجنوبية مع إسرائيل كان عاملاً جاذباً لفكرة سيطرة الطائفة على الدولة، فمن خلال الترويج الإعلامي، وكذلك المضي المستمر في اختلاق الأزمات المتوالية استطاع «حزب الله» من تكوين هذا التغلغل العميق في التكوين السياسي للبنان.
الأرض اللبنانية لم تكن خصبة بتلك الدرجة لمشروع طائفي، فلبنان الذي يتشكل من فسيفساء فريدة في الشرق الأوسط جمعت الأديان والمذاهب والطوائف المختلفة في جغرافية ضيقة ومحددة والأصعب أنها قابلة للانفجار لوجود الدوافع الذاتية، لذلك كان لبنان قادراً على التعاطي مع الحياة وطبيعتها من خلال «اتفاق الطائف» كحد أدنى للتوافق من جهة وللتعايش الآمن من جهة أخرى.
ما يجري في لبنان من «حزب الله» هو فرض وصايته بالقوة عبر تكريس واقع جديد من خلال الأزمات السياسية التي كان آخرها تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية ليخلف ميشال سليمان، مما شكل فراغاً يتيح لـ»حزب الله» مزيداً من مساحة الحركة، والأخطر هو ملء هذه المساحة بالدوافع المذهبية والفئوية والحزبية التي تمكن لإيران زايدة من التحكم في الإرادة الوطنية اللبنانية.
القرار السعودي بتجميد الهبة الممنوحة للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، هي امتداد لسياسة المواجهة التي أقرتها الرياض بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز ضد سياسات طهران العدوانية في التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وهذا هو الجزء الذي لم تكن إيران تعتقد بأن الرياض ستذهب إليه فلقد اعتقدت أن هزيمتها في اليمن فلن يكون لإيران فرصة للتدخل ولن يسمح لها بتأجيج الصراعات الطائفية والفئوية.
لبنان الذي أدخله «حزب الله» في أزمات حادة لم تنته عند مغامرته المجنونة في 2006م، بل إنها تواصلت حتى بلغت أقصاها في أزمة النفايات التي تتكدس في العاصمة بيروت ليؤشر هذا الحزب أنه لا يمكنه أن يتعايش مع الأمن والاستقرار بل في ظل هذه الأزمات التي يجتهد الإيرانيون في تأجيجها ثم يأتي لبنان مدعياً أنه ينتهج سياسة النأي عن الصراعات عندما يكون الاعتداء على السفارة السعودية في إيران بينما يتورط لبنان كاملاً في دعم نظام بشار الأسد ليقتل الآلاف من أبناء الشعب السوري ويساهم في تشريدهم خارج وطنهم، هذه الازدواجية في المعايير داخلياً تضعنا أمام خيار واحد هو إما «حزب الله» أو لبنان..!!، وهذا الخيار أمام الشعب اللبناني الذي عليه أن يعتبر بشعوب دفعت ثمناً باهظاً بعدم الاختيار بين الطائفية والدولة، فالعراق وسوريا واليمن شعوب تمثل الوجع العربي وعمق الأزمة أنها لم تقرر بمسؤولية وتركت للعابثين جرها إلى الفوضى والقتل والتدمير والتهجير.