د. حسن بن فهد الهويمل
كُتَاب الرأي، والمتردون في وحل السياسة، استنزفوا قواميس الهجاء، والتذمر، والتلطف، والاستعطاف، والأسئلة الشاردة. وأخذوا نوازلهم من أطرافها.
وخيبة أملهم أنهم كما بدؤوا يعودون. والمتلطخون بالآثام صُمٌّ، بُكْمٌ، عُمْيٌ. لايُرْجِعون صَوتاً، ولايسمعون شاكياً، ولايرحمون متوجعاً. يبصرون أشلاء الأبرياء المبعثرة. ثم لا تأخذهم بهم رحمة، ولاإحساس بخطيئة تتعاظم مع الزمن.
ذلك أن الذين يديرون عمليات القتل، والتدمير، يقبعون في غرف العمليات، البعيدة عن ردود الأفعال.
وكل قائدِ عمليةٍ عيونه لاتزيغ عن قائمة خطواتها، لأن مكاسبه الشخصية تكمن في دقة التنفيذ، وفداحة التدمير.
والنخب الذين يُحَبِّرون الكلمات، ويُجَوِّدون الخطب، ويُحْكمون لغة الجدل، لايجود عليهم اللاعبون إلا بزيف القول، ? .وخطل الآراء? فالحقائق كالغيبيات، لايعلمها إلا صناع اللعب.
وأين هم؟.
إنهم في بروج مشيدة، لايدرون مالموت، ولا الدمار.
وإذا كنا في عالم الشهادة نتخيل عوالم الغيب?، ولا نقول فيها إلا مانتوهمه، فإننا في عالم السياسة، كما نحن في عالم الغيب، مجرد تخرصات، لاتغني من الحق شيئاً.
لقد وضَعْتُ يدي على تراث اللغط السياسي في السبعينات، والثمانينات، والتسعينات التي وثقها أساطين الكتاب السياسيين، أمثال [هيكل] و[النشاشيبي] و[بها الدين] و[إبراهيم نافع] وآخرين، يعلمهم المعنيون بمرحلة الغليان القومي، والاشتراكي. وما أصاب أحد منهم مفاصل القضايا.
لقد تمخضت الأيام عن نتائج، وتحولات، لم يشر إليها أحد منهم، ولم يتنبأ بها أحد منهم.
فهل كانت خُطَبُ الرئيس الثائر المثير [جمال عبدالناصر] -عفا الله عَنَّا، وعنه- صادقة. وهي التي تدفع بالجماهير كالطوفان إلى الشوارع، والميادين، هاتفة بحياة البطل، مراهنة على صدق وعوده، وخطورة تهديده، وهلاك خصومه.
وحتى الشعراء، والكتاب تَرْجَموا هذه العنتريات الصاخبة، كما لو كانت حقائق دامغة. حتى قال قائلهم:-
[قَدْ وَعَدْنَا الأَسْماكَ أَنَّا نُرِيْها ... مِنْ لُحُومِ اليَهُودِ لَحْماً طَرِياً]
والروايات، والقصص، والمسرحيات: النثرية، والشعرية، كلها تدور حول هذه الادعاءات الزائفة، والرغاء الفارغ.
لقد فُزِّع عن قلوب الجيل الطلائعي، المباهي بمعرفته بدقائق الأمور، وبراعته في إدارة الأزمات، وبلاغته في محاجَّة الخصوم، فَوَجَد خيبة الأمل، وكَذِبَ الإدعاء. وحين زُج به في أتون الفتن، ظل يقتات من هذا الزيف الرخيص.
لقد فُرِضَتْ عليَّ قراءةٌ وظيفيةٌ لعدد من المجموعات الشعرية المسرحية، والسرديات السيرية، فوجدتها قمة في أبعادها اللغوية، والفنية، مُتْرَبَّيةً في أبعادها الدلالية.
ذلك أن شيطان السياسة، وخداع العناوين استحوذا على أفكار المبدعين، فأرداهم الوهم في وحل التهريج الفارغ، والإدعاء العريض.
ولكم أن تقرؤوا -على سبيل المثال- مسر حيات الأستاذ الدكتور [أنس داود] رحمه الله، وشيئاً من مسرحيات [خالد البرادعي] الشعرية. لتجدوا لغة ثائرة، مائرة، تبني من الأماني العريضة قصوراً فارهة، ثم تهدمها الحقائق.
هذا الاستهلال المؤذي للنفس لابد منه، فزمن التيه طال أمده، وأناخ بكلكله. ولابد و
-الحالة كذلك- من مواجهة الذات بما هي عليه من تشوهات. إذ لم يعد هناك مجال للتورية. لابد من المواجهة، وإن كانت مؤذية.
وإذا كان حبل الفجائع ملتف على كافة الأعناق، والنار تمتد كما لو كانت في الهشيم، فإن اضطراب المفاهيم متوقع، وإعادة النظر في الشأن كله مطلوبة. فما عاد هناك مبرر لمزيد من الزيف، وقول الزور، والخدر الذي ينساب من أفوه اللاعبين.
ما نقوله حول الفوضى الهدامة قول معار، أو معاد. لقد تقصينا الحديث عن دول عربية بلغت مرحلة الموت الدماغي. وتنفسها الآن تحت الأجهزة، إذ لا يحتمل مزيداً من ترديد القول حول أوضاعها.
[العراق] و[سوريا] مثلان حيان. لقد انفلتت كافة الأوضاع فيهما، ولم يعد بمقدور اللاعبين العودة بهما إلى مرحلة الإنعاش.
وأمام هذه المصائر القاتلة، يود العقلاء، والمجربون تمكين الطرائد من أخذ قسط من الراحة، ومراجعة النفس. فما عاد من مصلحة أحد كائنا من كان الاستمرار في القتل، والهدم، والتشريد.
لقد حقق اللاعبون فوق ما يؤملون. فالطرائد منهكة، وأنساقها الثقافية التي صنعتها الفتن الطائفية، والعنصرية، كالداء العضال، الذي لا يملك معه الأطباء صرفاً، ولا عدلاً. إنها ثقافة الكراهية، والتربص، والتماكر، وسوء الظن.
وحين لاتمتلك النخب شيئاً من الحقائق، فإن أقصى ما تؤمله مناشدة اللاعبين تمكين الطريدة من الإبقاء على رسيس الحياة.
إذ لم يعد من مصلحة اللاعب الإجهاز عليها. وهو حين يفعل فَعْلَته المصمية، إنما يريد التمكين لنفسه، والاستئثار بالثروات الدفينة، والتسويق للمنتجات. ولن تكون الطرائد متوفرة على مايريده المستبد، حين تصل بها الأحوال إلى الموت الدماغي.
لقد وجد اللاعبون وقوداً لإذكاء لعبهم. ولو أدركت الطرائد مقاصد اللاعبين لما مكنتهم من الاستفادة من ذلك.
[العنصرية]، و[الطائفية]، و[الإرث التاريخي] المليء بالاحقاد، هي الوقود الذي أقام عليه اللاعبون رهاناتهم.
وحتى لو لملم اللاعبون أشياءهم، ورحلوا، فإن هذا الثالوث البغيض المُذْكِى للأحقاد، سيظل خليفة لهم، يمد كل الأطراف بالمكائد، والضغائن.
- فهل من حل للطائفية التي استغلها اللاعبون، حتى جعلوا من قضيتها مجال فرقة لا لقاء بعدها؟
- وهل يستطيع العقلاء، والحكماء، والحكام استلال سخائم [العرقية] المتجذرة بالإرث العربي؟
وعلى الرغم من استحكام حلقات المشاكل، فإننا لن نتألى على الله:
فـ[قد يَجْمَعُ اللهُ الشَّتَيِتيَن بَعْدَما
يَظُنَّان كُلَّ الظَّنِّ أَلّا تلاقيا]
وفي ظل بصيص الأمل.
- هل من حَلِّ للحقد المجوسي، الذي استهله [أبو لؤلؤة] باغتيال أكبر شخصية إسلامية، تم على يدها اسقاط [الامبراطورية الفارسية]. وهي أول عملية إرهابية، حققت أكبر النتائج؟
لقد استهلك الكتاب كل قواميسهم، واستنزفوا كل تنبؤاتهم، ولم يبق إلا أن يناشدوا اللاعبين تمكين الطرائد من فترة نقاهة، يتجاوزن فيها مرحلة الخطر. وذلك أضعف التطلعات.
لقد قامت الثورة في [سوريا] كحلقة في سلسلة اللعب القذرة، وكان رهان المراقبين: أن الأوضاع ستحسم بين عشية وضحاها. وكنت ممن استبعد ذلك، وحذر من فتنة تمتد مع الزمن.
ولو خُليِّ بين الشعب السوري المعارض، وحكومته الطائفية الجائرة، لما طال أمد الفتنة، ولكن [إيران] و[حزب الله] و[روسيا] و[داعش] وتخوف [الصهيونية] خلطوا الأوراق، وأربكوا المراقبين. ومن ثم اتسع الخرق على الراقع. وقل مثل ذلك عن [العراق] و[ليبيا].
ومامن أحد من المراقبين، والراصدين، والمتحدثين من تنبأ بشيء من هذه التطورات الخطيرة.
فالخيوط التي تحرك الدُّمى، تُمسك بها أصابعُ لايعلمها إلا القلة من أساطين السياسة.
مايوده الواقعون في اللهب أن تُعطى للطرائد فرصةٌ للنقاهة، وأخذ النفس، والخلوص من زمن التيه، الذي طال أمده. فما عاد من مصلحة كل الأطراف استمرار الفتن، واتساع رقعتها.