أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
(3):
قال أبو عبدالرحمن: قد يُبْتَكَرُ اللفظُ لمعناه على لسانِ فصيحٍ عربيٍّ سليقِيٍّ؛ فَيَشِيُع استعمالُه على ألسنة الفصحاء ويُخْضِعونه لأصول لغتهم في أوزانها ونحوها؛ فيكون كلاماً عربياً مُبيناً،
وتكون المواضعةُ الجديدةُ محاكاةً للطبيعة، أو محاذاة واتباعاً أو نحتاً.. مثال ذلك قول جرير يهجو الْـفِرَزْدَقَ:
عُدُّوْا خَضَافِ إذا الفحولُ تُنُتِّجَتْ
و(الْـجَيْثَلُوْطَ) ونَخْبَةً خَوَّارا
قال أبو عبدالرحمن: هذا البيتُ آخِرُ قصيدةِ جريرٍ [30ــ 114 هـ] التي مَطْلَعُها:
ما بالُ نَوْمِكَ بالْـفِراشِ عِرارا
لو أنَّ قَلْبَكَ يستطيع لطارا
قال محمد بن حبيب [ـ 245هـ] في شَرْحِه ديوانَ جرير/ ط دار المعارف بمصر/ طبعتهم الأولى بتحقيقِ الدكتورِ نعمان محمد أمين طه [قال أبو عبدالرحمن: مِثْلُ هذه الأسماء يُحْرِجني ضَبْطُها؛ لأنني لا أدْرِي: هل الاسمُ مُرَكَّبٌ، أو غيرُ مُرَكَّبٍ؛ فلا أعْلَم أينَ أَضَعُ كلمةَ (بن) أوْ ابن)]: ((الْـعِرارُ الْـقَلِيْلُ مِن النوم؛ وهو مأْخوذٌ مِن عرار الناقةِ؛ وهو اِنْقطاعُ لَبِنَها.. والقصيدة في هجاء الفرزدق، وقال ابن حبيب في شَرْحِهِ البيتَ الأخير 1/518: ((لا أدْرِي ما (الْـجَيْثَلُوْطُ)، ولا سَمِعْتُ أبا عبدالله يعرِفه.. قال: (لا أدْرِي مِن أيِّ شيىءٍ اِشْتَقَّهُ)).. وفي القاموس المحيط: ((الجيثلوط كَـ(حَيْزَبونَ)، ثُمَّ اخْتَرَعَهُ النساءُ، ولَـمْ يُفَسِّرُوْهُ.. وكأنَّ الْـمَعْنَى: (الْكَذَّابَةُ،السَّلاحَةُ، الْـحَمْقاءُ)؛ مُرَكَّبٌ مِن (جَلط، وَجثَطَ أوْ ثَلَطَ)؛ جَلَطَ يَجْلِطُ:كَذَبَ، وَجَثَطَ بغائِطِه يَجْثِطُ رَمَى به رَطْباً مُنْبَسِطاً.. ثَلَط الثورُ والبعيرُ والصبيُّ.. وفي نُسْخَةٍ من شرحِ ابن حبيب: ((خَضَافِ ضَرُوطٌ، وتُنُتِّجَتْ تُخُيِّرَتْ لِلْفَحْلَةِ، وَالنَخْبَّةُ الجبان)).
قال أبو عبدالرحمن: الْأَمْرُ سَهْلٌ جِدّْاً؛ فإذا لم يُوْجَدُ لِلجيْثَلُوط نَحْتٌ يَصِحُّ على عادَةِ العربِ في النحت: فإنَّ الْكَلِمَةَ حِيْنَئِدٍ معاياةٌ من جريرٍ لا معنى لها؛ وذلك أنَّ الكلمة المنحوتة إذا لم تشتهر فلا تُسْتَدْرَكُ على القواميس؛بل تُضَافُ إلى الأدب على أنها إبْداعٌ أو تَمَظْهُرٌ لا معنى له؛ لأن النحت تركيب كلام لِـمَلْمَحٍ بلاغي جمالي؛ فإذا شاع استعمالُه أصبح عُرْفاً لُغويَّاً يُضاف إلى المعجم.. وقد يكون مضافاً إلى المعجم تشبيهُ أديبٍ إلا أنه أصبح اسماً؛ فكان مفردةً لغويةَ، ومما ورد من ذلك في لغة العوامِّ العشارِقُ.. قال شاعر عاميٌّ:
مَـرَّتْ بِـيَ الْقِدْرَةْ وانا عنه منصوحِ
اَفَزِّ لَاْ اْوْ حَيْتِ لَـجَّةْ عشارِيِقَهْ
وقال دِخيلُ بنُ قُوَيْد:
ناْخِذْ على خيلَ الْمْعادِينِ مِشْوَاحْ
لِعْيُوْنِ مَن تَزْهَى العشارِقْ خْدودُهْ
قال أبو عبدالرحمن: العشارق حُلِيٌّ من الذهبِ يُلْبَسُ على الرأسِ، ويتدلَّـى على الخدودِ، ويُسَمَّى حَلْقَةً عند أهل نجد وفي صعيد مصر، ويسمى في ريف مصر وباديتها (دِنْدِشْ)، ويطلق أيضاً على (خماخم) الأُذن؛ وهذه التسمية على التشبيه بالعشرق إذا يبِس يكون له صوتٌ كصوتِ الْـحُلِـيِّ.. جاء في المعجم: أنَّ العشرق (؛وهو الحنظل) يُـخَشْخِشُ؛ فيُسمَع للوادي الذي يكون فيه زَجَلٌ؛ ولهذا لا تأوي الحيَّاتُ بوادي العِشْرِق؛ ويدل على صحة التشبيه في التسمية العامية قولُ الأعشى:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وسْواساً إذا انصـرفتْ
كما استعانَ بريحٍ عِشْـرقٌ زَجِلُ
وربما سُمِّي على أساسِ تشبيه حبَّاتِه بورق السنا، والعوامُّ تسمي السنا عِشْرِقاً.. وعن ابن الأعرابي: أن العشرق نبات أحمر طيب الرائحة تستعمله العرائس.
قال أبو عبدالرحمن: يَدْخُلُ في هذا الباب معاني (سَمّْ)؛ فقدعلمتُ من أبي عبدالله حمد القاضي: أنَّ الكاتبَ المصريَّ (أنيس منصور) أجهد نفسه في البحث عن الأصل اللغوي لاستعمال أهل نجد كلمة (سَمّْ) بصيغةِ الطلب على وزن فِعْلِ الأمر؛ وهو الاستعمال العامُّ لدى مُواطني الجزيرة العربية، ولا سيما في نجد والخليج، وبعد جُهد جَهيد اهتدى إلى أنَّ الأصل: (سمِّ الشيئَ باسمه)، ونشر ذلك في إحدى المجلات أو الجرائد !!.. ولو اطَّلع على كتاب (معجم الألفاظ العامية في دولة الإمارات العربية المتَّحدة) للأستاذ فالح حنظل لَوَجَدَ مُؤَشِّراً يريحه من الْـعَناءِ؛ فقد قال في معجمه: (سَمُّوا: أي تفضلوا، وأسْرِعُوا بالأكل؛ والأصل فيه بسم الله الرحمن الرحيم)..وهذا هو الصحيح، ولكنني أبيِّن كيفيةَ نَشوءِ الاستعمالِ واراتدادِه إلى أصله، مع استيفاء معاني (سَمّْ) العامية؛ وَأُمَهِّدُ لذلك بأنَّ العامة لا يستعملون (سَمّْ) المطلقة غيرَ المقيَّدة في سياقٍ بمعنى سَمِّ الأشياء باسْمِها؛ وإنما يَرِدُ هذا الاستعمال في سياقٍ أو قرائنَ تدلُّ عليه؛ فيقولون لِلْمُفِيْدِ عن جماعةٍ بخبرٍ مُـجْمَلٍ: (سمِّهم): أي اذْكُرْهُم بأسمائهم، وهذا استعمال عربي فصيح لا يحتاج إلى بحث كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [سورة الرعد/ 33]،؛ فهذا نَفْيٌ لوجودِ شريكٍ لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا فَهُمْ غيرُ قادِرِينَ على تَسْمِيَتِهم.. وأَمَّا سَمِّ الْـمُطْلَقة فترد عند أهل نجد لمعانٍ ثلاثة:
أولها: سَمِّ بمعنى قُلْ: بسم الله الرحمن الرحيم.
وثانيها: سَمِّ بمعنى خذ ما قُدِّم لك من فنجان قهوة وغيرِه، وتناول الأكل ذاكراً اسم الله، ولا يزال صاحبُ المائدة يقول لضيوفه: سَمُّوا.. الله يحييكم؛ وهو يريد في الحقيقة تناولوا الأكل.
وثالثها: سَمّْ بمعنى (نَعَمْ)، وما في حكمها؛ فيقول الإنسان لمن يناديه: سَمّْ بمعنى (نعم، ولبيك)، ويقولُ لِـمَنْ يُمْلِيْ عليه توجيهاً من والدٍ أو شيخٍ أو رئيس: (سَمّْ) بمعنى لبيك، وبمعنى إنني مُصْغٍ إليك مُتَفَهِّمٌ قَوْلَكَ.. وكل هذه المعاني يُراد بها التلطف والتبرك، والاستعمالُ الأول استعمالٌ صحيح مبنيٌّ على الحذْف؛ وهو امتثالٌ للأمر الشرعي، وتقديره: سَمِّ الـلَّهَ بقولك: بسم الله الرحمن الرحيم.. وأما الاستعمالُ الثاني فهو استعمالٌ مجازيٌّ غيرُ مسموعٍ عن العرب بنصِّه، ولكنه جارٍ على أصولِ العربية وقواعدها؛ ووجه المجاز: أنَّ سَمّْ بمعنى خُذْ وتناول وأسْرع؛ وهذه الأمور في سلوك المسلم لا تكون إلا بعد قوله: بسم الله الرحمن الرحيم؛ فأصل الاستعمال سَمِّ الله قبل أخْذِك وتناولِك وشروعك امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (سم الله وكل بيمينك)، ثم عَبَّروا بالتسميةِ عمَّا شُرِعَتْ له التسمية من التناول والأخذ والشروع؛ لأن إيقاع التسمية من بدائه العادات في مجتمعات العرب، ولأن التسمية إيذان بالشروع والتناول والأخذ؛ وهذا من ألطف المجاز وأمتعه.. وأمَّا الاستعمالُ الثالث فهو مجازيٌّ أيضاً كالمجاز في الاستعمال الثاني، وَوَجْهُ هذا المجازِ أنَّ (سَمّْ) بمعنى نعم ولبيك وتفضَّل؛ وأصل ذلك اُدْخُلْ البيتَ مُسَمِّياً، وقل ما تريد أن تقوله مسميَّاً؛ فإنني حاضر بين يديك، والمرادُ مطلقُ الشروع في الدخول والقول؛ وإنما تُـجُوِّزَ إلى التسمية؛ لأنها مُقدَّمَةُ ذلك، ولأنها مقدمةٌ شِبْهُ حتميةٍ في الْعُرْف الاجتماعي؛ وهذا أيضاً من ألطف المجاز؛ لما فيه من تلطُّفٍ للمخاطَب، وتذكيرٌ بالموروث الشرعي.. وثمة نماذجُ كثيرةٌ من العامية النجدية التي تدَّفقت مِن المعنى الأصلي اللغوي بأصولٍ مجازيةٍ معقولةٍ يفرح بها البلاغيون، وقد قَعَّدْتُ لذلك ومَثَّلْتُ له في كتابي (من الفصيح غير الْـمُدَوَّن في استعمال العامة)، وتدفَّقَتْ هذه المعاني العامية على النحو نفسه الذي تدفَّقت به المعاني الفصيحة مِن المعنى اللغوي الأصلي.. واللغة تنْمُو بالتجوُّز من الْحِسِّيِ إلى المعنوي بمجاز أدبي يتحوَّل إلى تسمية لغوية.. خذ مثال ذلك: (الفِراسةَ المعنوية)؛ فهي من الفروسية الحسيَّة؛ والفروسية من أنبل المعاني التي يفتخر بها الجنس البشري؛ هي عَناءُ الأمةِ العربية في شِعْرِها القديم إلى أنْ تَـحَوَّلَتْ إلى شعرٍ شعبي وعامي وملحي في أقاصيص عنترة وسيرةِ بني هلال.. ولا تزال السيرة الهلالية موضوعَ الْـمُنْتدى والسَّمَرِ في أريافِ بعض البلاد العربية، وإلى وقت قريب كانت سيرةُ عنترة موضوعَ السمر في الحجاز.
قال أبو عبدالرحمن: والْـمَهارَةُ السِّينَمائية بخداع البصر: أرضت أذواق الجماهير في القرى والأرياف؛ فقد رأيتُ عنترةَ في التمثيل يحمل النخلة، ويجتثُّها من التُّربة بِيَده كأنها عود كبريت.. يَسْتَعْمِلُها عِوَضَ السَّيفِ إنْ انكسر أو نشب، ثم يصيحُ المشاهدون مُهَلِّلِين وَمُكَبِّرِين ومُشَجِّعِيْن !!.. والفروسية في لغتنا مشتقة من حركاتٍ تُثِيرُ الانقباض والاشمئزاز؛ فهي مُشْتَقَّةٌ مِن دَقِّ الْعُنُقِ، وتمزيقِ اللحم.. واشْتُقَّتْ أيضاً كلمةُ الفراسة بمعنى الحدْسِ الصائب؛ لأنها إعمالُ موهبةٍ تُمَــزِّقُ عُقَدَ الأفكار والأحاسيس؛ ولكنَّ الفروسية الاصطلاحية لا تتقيَّد بحرفِيَّة المعنى اللغوي؛ بل كانت ذاتَ مضمون فكري؛ فلا تكونُ فروسيةً إلَّا عن صراعٍ قويٍّ عاقل لِـمَظَاهرِ الشرِّ في سبيل الحقِّ والخير والجمال، وقد فطن الأدب اليوناني إلى سِحْرِ الفروسية وإن كانت النتيجةُ مأساةً؛ لأنَّ تعاطفَ الجمهورِ مع البطلِ تعبيرٌ عن انتصارِه النفْسِيِّ الْـوِجْداني بالقوة لا بالفعل؛ وهذا هو المُهمُّ: أيْ أنْ لا يَـجْبُنَ البطلُ وإن لم ينتصر ظاهريَّاً.. وقد ترى أفلامَ الإجرام والبوليس واللصوصية (وفيها شجاعة وقوة)، ولكنك تُصاب بالغثيان.. لماذا؟..لأنَّـها بخلافِ الفروسية.. والفروسِيَّةُ ليستْ هي الشجاعة وَحَسْبُ، ولكنها الشجاعةُ الخيِّرة الكريمة، وفي تراثنا ألعابٌ رياضيَّة (ألعابٌ بالتجوُّز) لم تُقْصَدْ لِـنَفْسِها؛ وإنما قُصِدَتْ لأجل الفروسية، ولستُ أفقه للرياضة معنى ما لم تُـحَقِّقْ فروسيةً وفراسةً معاً.
قال أبوعبدالرحمن: إذن الموهوبُ لا يصنع لُغَتَه ولغةَ قومه؛ وإنَّما يَسْتَجِدُّ لَه عِلْمٌ محجوبٌ عن أمته من اكتشاف نبات أو حيوان، أو استجدَّ له عِلمٌ بمصنوع بشري لم يُعْرف قبل ذلك؛ فإنه يسميه من مأثور لغته، أو بالاقتراض من مأثور لغة أخرى، أو بما تسمح به أصول لغته من تصرُّف؛ ووجهُ ذلك أنه ليس بقدرة مخلوق أن يزيد في مخارج الأصوات مخرجاً واحداً فعاد الأمر إلى المأثور أو الاقْتراض.. وصاحِبُ التحديث الأدّبيِّ: لا يفرق بين رابطةٍ، ومادة، وصيغة ذات معنى أو معانٍ معجمية نقلية وبين كلامٍ مُكَوَّن من مادَّةٍ وصيغة ورابطة تُوصف بالجُمَل المفيدة؛ فالأول لغة منقولة مأثورة مقيدة محصورة، والثاني عمل مركب ذو شِقٍّ نقلي محصور؛ وهو قواعد النحو، وذو شق سيَّال لا حصر له إلا بمقدار ما ينحصر الإنسان في محيط إدراكه الحسي والعقلي.. وكُلَّما استجدت للإنسان معرفته: فإنه يُعَبَّرُ عنها بعشرات الكلمات إنْ عجز عن تحديدها بالكلمة والكلمتين.. وما يُعبَّر عنه بكلمة كالتورية، أو بكلمتين كالدليل الأُونطولوجي وهو لا يُفْهمُ إلا بسطور: فلا يعني أنَّ الاسمَ أو العَنوان استجدَّ بمعرفةِ المرموزِ له؛ بل يعني أنَّ ذلك الاسمَ والعنوانَ اختصارٌ للتعبير عما هو معروف بوسائط عديدة من الكلمات والجمل.
قال أبو عبدالرحمن: وقضيةُ التفكير واللغة: من قضايا الفكر الحديث الحيوية، والذهابُ إلى عجز اللغة عن مواكبة التفكير وتحديد [بالحاءِ الْـمُهْمَلَةِ] الفكر: أحَدُ المواقف الجدلية العتيدة، وقد عبَّر عن هذا الموقف (سبيرمان) بقوله: ((ما أشبه ميدان المعرفة بمحيط تناثرت فوق سطحه جبال الجليد، وليست هذه الجبال إلا الفكر الذي أمكن تجميده في ألفاظ)).، وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله تعالى مَعَ السَبْتِيَّةِ القادمة، والله المستعان.