د. جاسر الحربش
مثل هندي: لا تفسد شهية الآخرين بإبداء رأيك في أطباق المائدة.
أفضل ما تقدمه لعدوك أن تتصرف بالطريقة التي يتمناها. أفضل ما نقدمه لإيران وللمسمى حزب الله هو الدخول في قطيعة مع الشعب اللبناني بدون تمييز. طيلة الثلاثين سنة الماضية كان النظام الإيراني يستفيد من الفراغات، المعنوية قبل المادية، التي لم يستطع العرب ملأها بذكاء وباستغلال الفرص السانحة، وكانت كثيرة. هذه واحدة والثانية هي أننا في المنظومة العربية الخليجية وكسعوديين بالذات، لسنا في حاجة إلى عداوات إضافية. نحن السعوديون، وطنا ومواطنين لا نتمتع بما نعتقده من الود والاستلطاف في العالم. اقترنت الصورة عنا، إعلامياً، بالبحث عن المتع التافهة وتبذير المال وقلة التواصل مع الشرائح المثقفة والجدية في الدول التي نزورها. لذلك نجد ابتسامات وألقاباًً تفخيمية في الحل والترحال خارج البلاد، ولكن ذلك من لوازم أكل العيش ولا علاقة له بالود ولا بالاستلطاف. في مسألة الود والاستلطاف هذه يحسن بنا أن نركز أولاًً على وضعنا الداخلي.
بما يخدم فكرة المقال قرأت الأسبوع الماضي مقالين، أحدهما للأستاذ الهادئ المتميز مرزوق بن تنباك في صحيفة مكة، عدد الثلاثاء 14-5-1437 هـ بعنوان: كلنا غير، والمقال الثاني لصاحب الفكر النير خالد الوابل في صحيفة عكاظ عدد الأربعاء 15-5-1437 هـ. بعد القراءة اكتشفت، بالرغم من أو بسبب تزكيتي لنفسي قبل ذلك، أنني ممن ينطبق عليهم تصنيف كلنا غير وكذلك تصنيف عدم التطابق بين التدين المعرفي والتدين السلوكي. نحن فعلاً غير، ليس فعلاًً بالأشياء التي حصلنا عليها هبات من الله وإنما بخصوصياتنا السلوكية وتفردنا بمفاهيم كثيرة تختلف عن بقية سكان العالم. المشكلة أن الشعوب والأوطان تتقارب أو تتباعد حسب الكم والنوع المشترك بينها وكذلك الأفراد، ورحم الله من عرف نفسه.
أعتقد أن هذا التفرد العالمي، الذي نسميه خصوصية، تربوي وناتج (ضمن أسباب أخرى أقل أهمية) عن عاملين هما: الالتزام الظاهري بطروحات فقهية خاصة بنا في تحديد العلاقات الشخصية والعامة، ثم في التوجس الناتج عن العزلة الطويلة قبل عصر السياحة النفطية. نصف قرن من الاحتكاك المباشر في العالم لا يكفي لتفكيك تأثير خمسة قرون أو أكثر.
ومع ذلك فليس الهدف من الكتابة تحت العنوان أعلاه النظر في سلوكياتنا في الداخل، فعملية التقارب والتكامل والاستلطاف تفرض شروطها وبسرعة لا بأس بها، وسوف تزداد بالتأكيد كلما حافظنا على استمرار الاستقرار المعيشي ورفعنا سقف التنوير الحضاري وكشفنا عوار الطروحات الحدية والإقصائية والاحتكارية. الهدف من المقال هو النظر في سلوكياتنا مع الخارج.
مسألة قطع العلاقات بين الحكومات تصرف سيادي تمارسه الحكومات عند الضرورة لأسباب أعمق وأهم من أن يجتهد فيها كل من حمل قلماًً أو تمتع بطلاقة في اللسان. القطيعة السياسية بين حكومة وحكومة لا يفترض أن تعوَّم شعبياًً وتستغل شعبوياً باستثارة المزيد من الحساسيات والعداوات. على سبيل المثال السريع، ليس من الكياسة الأخلاقية والوطنية ولا الشرعية وصف الشعوب الإيرانية بالمجوس والروافض للتكسب الشعبوي الغوغائي، ويكفي أن يلتزم المواطن بمطالب حكومته في القول والعمل والتعامل.
حالياًً يتم الخوض العشوائي الشعبوي في موضوع سياسي يمس علاقة الحكومة السعودية (المتضررة) بالحكومة اللبنانية (المتحيزة)، وهو موضوع حكومي لا علاقة للدولتين ولا الشعبين السعودي واللبناني ببداياته ولا نهاياته. الحكومتان نفسهما لا تريدان أن يصل الأمر إلى حدود القطيعة والاستعداء على مستوى الدولتين والشعبين.
من المقبول والمعقول مناقشة الأمر على المفتوح في المجالس الخاصة، على أن تبقى الآراء بمعزل عن الإعلام المقروء والمنطوق والمشاهد في العلن. فتح الأبواب للاجتهادات العشوائية يتيح الدخول للحمقى والانتهازيين والمتسوقين في كواليس الإعلام.
من المؤكد أن العلاقات الجيدة بين «الدولة السعودية والدولة اللبنانية» سوف تعود، بعدما قدمت الحكومة السعودية براهينها على الأضرار الفادحة التي تسبب فيها سكوت الحكومة اللبنانية (الخارجية اللبنانية تسميها احتيالاً النأي بالنفس) عن اختطافها لصالح عدو واضح وشرس للبنان أولاًً قبل السعودية. الضرر المباشر من عملاء إيران على لبنان بكل مكوناته واضح ومدمر، أما السعودية فقادرة بعون الله على التعامل معهم وإخراسهم. حينئذ سيكون لبنان بكامله، بما فيه العرب الشيعة من أول الشاكرين لمساعدتهم في التخلص من الطاعون المذهبي الذي يفتك بلبنان.
ويبقى الأمل الكبير على هامش تصحيح موقف الحكومة اللبنانية بعد كشف الأوراق، وهو الأمل أن تصحح السعودية الإختلالات الموجودة لغير صالحها في التسهيلات الإعلامية والإعلانية والتجارية واختيار الشركاء المناسبين من اللبنانيين في سوق العمل والإعلام والإعلان والتبادل الفكري. ذلك هو ما يأمل المواطن السعودي أن يكون على رأس قائمة الفوائد والأولويات التي سوف تترتب على إنهاء التوتر المؤقت بين الحكومتين، لصالح الدولتين والشعبين.
بدأ الدور السعودي لتصحيح الوضع بين الحكومتين، ولكن الشعب السعودي وأطياف الشعب اللبناني المتعددة، كلها عليها الالتزام بواجبات اللغة والتاريخ والجغرافيا ولا حاجة لأي اجتهادات تضيف للطرفين عداوات جديدة.